أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الاثنين، 1 ديسمبر 2025

يافا..القاهرة..بيروت 1947!



في عام 1947، كان لدى شاب من القدس، ما يأمله، في الأرض المقدَّسة المشتعلة. اسمه زهدي حسن جار الله. أصدر كتابًا عن المعتزلة. من منشورات النادي العربي في يافا. طبع في القاهرة.

الكتاب، المتوفرة منه نسخة على الانترنت، رسالة تبحث في تاريخ المعتزلة وعقائدهم وأثرهم في تطور الفكر الإسلامي، قدمها مؤلفها إلى دائرة التاريخ العربي في كلية العلوم والآداب بجامعة بيروت الأميركية ونال عليها رتبة أستاذ في العلوم.

أهداه إلى: "طلَّاب الحرية من شباب العرب في كل أرض، وفي كل زمان، أهدي هذه الرسالة في تاريخ دعاة التحرر الفكري من أسلافهم".

مقدمة قصيرة للدكتور الفريد جسوم الموصوف بـ المستشرق الكبير، وهو أستاذ جار الله، وأحد المشرفين على الرسالة، رفقة قسطنطين زريق، الذي سينسب إليه أجتراحه مصطلح النكبة، وصاحب التأثير على شبان سيعبرون عن رفضهم للنكبة، بأكثر الطرق ثورية، كجورج حبش مثلًا.

يقرّ الشاب القدسي، بفضل شارل مالك، الشخصية المعتبرة سياسيًا ودبلوماسيًا وأكاديميًا، المعجب بالمعتزلة. أظن أنَّ من منجزات مالك المتعددة، تأسيسه لقسم الفلسفة في الجامعة الأميركية، وربَّما هذا ما أوجب التويه بفضله.

يعرب المقدِّم عن أمله الكبير: "إذا كانت مكتبات الشيعة في اليمن أو في غير اليمن تحوي مخطوطات من أصل معتزلي، أن تقوم بنشرها". هذه ملاحظة مهمة، هل سُمع في زمنه عن مخطوطات للمعتزلة في اليمن؟ هل يقصد مؤلفات القاضي عبد الجبار، التي نشرت بالفعل، لاحقًا (في الستينيات) بإشراف طه حسين؟ وصلت بعثة مصرية في عام 1951 لتصوير مخطوطات اليمن ومن ضمنها كان (المُغني) للقاضي عبد الجبَّار، أدرك طه حسين أهمية هذا السِفر، فأشرف على نشر ما وجد منه. تتوفر نسخ منه لدى مكتبة دنديس في الخليل، التي يعيش فيها ناجح سلهب، الذي يقدم نفسه كرأس المعتزلة في فلسطين. لعل ذلك يفرح جار الله هناك في دنيا البقاء.

يقرَّ جار الله أنَّه اعتمد على ما قاله المختلفون عن المعتزلة عنهم، أملًا هو الآخر نشر مخطوطات المعتزلة الموجودة في مكتبات الشيعة "في اليمن والعجم والهند". هذا يعني أنَّ معلومات شاعت عن وجود مثل هذه المخطوطات.

لا يخفي المؤلف تعاطفه مع المعتزلة باعتبارهم روَّاد حركة فلسفيَّة علميَّة تحرريَّة، ويأخذ عليهم إعلانهم المحنة واضطهاد العلماء ليحققوا بالإكراه ما لم يحقق بالاقناع. ويرى أنهم بهذا هدموا بأيديهم في بضع سنين ما بنوه في قرن، وأعطوا أعداءهم الحنابلة سلاحًا يقاومونهم به.

يعتقد المؤلف أنَّ شدَّة تمسك المعتزلة بالعقل وتحاملهم على النقل لم يؤد إلا إلى تقوية ما يصفها الرجعية الحنبلية، ولكن أيضًا إلى نشأة حركتين رجعيتين، حسب وصفه أيضًا وهما الظاهرية، والكرَّاميةَّ. هل الظاهرية التي ترفض القياس والرأي، وقصر الإجماع على إجماع الصحابة، والتمسك بظاهرة الكتاب والسنة، رجعيَّة حقًا؟ على الأقل فيما يخص عَلمين من أعلامها، وهما ابن داود زعيمها في بغداد بعد والده، وابن حزم فالأمر مختلف. الأصح أحب أن أراهما مختلفين، فالأوَّل هو صاحب كتاب الزهرة، الذي يعتبر، حتى إشعار آخر، أوَّل كتاب في العشق في الأدب العربي، يعتقد البعض أنَّ ابن حزم، كتب طوق الحمامة، كمعارضة لكتاب الزهرة، وإن كان ذلك، بالنسبة لي، غير دقيق، إلا أنَّه يمكن تلمس تأثر القطب الظاهري البارز في الأندلس بكتاب زعيم المذهب في بغداد.

حسب جار الله فإنَّ فرقة الكرَّامية، وهم أتباع محمد بن كرَّام السجستاني، غالوا في إثبات الصفات حتى انتهوا إلى التقسيم والتشبيه، ووصل عددهم في الشام إلى 21 ألفا. استوقفتني هذه الفرقة، بعيدًا عن كتاب جار الله، لنفوذها في القدس حتى يمكن لقاريء أخبارها، يظن أنَّ القدس، في فترة زمنية، كانت كلها كرَّامية، ودفن مؤسسها في المدينة المقدسة. عموما الكرَّامية فرقة كلامية، تأثر مؤسسها، ووارثوه الذين انقسموا لفرق، كحال أصحاب علم الكلام، بالفلسفة. مؤسف أن لا أحد، على علمي تصدى لمهمة كتابة التاريخ العلمي للقدس، التي وإن لم تكن بأهمية القاهرة وبغداد ودمشق، إلا أن ساحاتها وأروقتها شهدت مناظرات، وإقامة لعديد من رموز الفكر والفلسفة فيها لفترات.

عاد جار الله، في بحثه، إلى مخطوطات، ويمكننا تقدير صعوبة عمله، نحن الذين نستطيع قرأتها وقد تحولت إلى كتب.

#زهدي_جار_الله #ناجح_سلهب #المعتزلة #أسامة_العيسة