يجلس
رفعت تُرك، نجم كرة القدم في الداخل الفلسطيني، على مقهى في أحد مقاهي يافا
الحديثة، في منطقة ترتفع فيها البنايات، التي يخيل للمرء أنها كانت هكذا دائمًا،
ولكن منظومة مياه مبهرة مقابل المقهى ولا تبعد عنه سوى أمتار، تنبيء عن غير ذلك.
قال
تُرك، الذي كان أول عربي يلعب في المنتخب الإسرائيلي في سبعينات القرن الماضي، بأنه
تعلم السباحة عندما كان طفلاً، في البركة التي يضمها النظام المائي.
وأضاف:
"كانت هذه المنظومة المائية تخدم بيارة برتقال تعود لعائلة أبو دية، وكما
يعلم الجميع، كانت يافا تشتهر بهذه البيارات التي تصدر برتقالها إلى العالم".
ولكن
دولة الاحتلال، التي استولت على مئات البيارات، مثل ببارة أبو دية، دمرتها،
وحولتها إلى مبانٍ سكنية لإسكان المستوطنين اليهود، كما يمكن رؤية ذلك في الموقع
الذي كان بيارة كبيرة لعائلة فلسطينية تشتت، حيث ترتفع البنايات الحديثة الإسمنتية،
ولم يبق شاهدًا على تاريخ الموقع سوى المنظومة المائية، التي تتكون من قنوات وآبار
وبركة، وغرف، ومضخة مياه.
وتظهر
ثلاث غرف محمولة على أقواس، تعود على الأغلب إلى القرن التاسع عشر، كشاهد ليس فقط
على وجود بيارة عائلة أبو دية، ولكن على مئات البيارات في يافا وحولها، والتي عرفت
بالسكنات، مع توسع زراعة البرتقال، وتصديره، منذ القرن التاسع عشر.
ورممت
بلدية تل أبيب-يافا هذه المنظومة المائية جزئيا، لتكون معلما سياحيا، يقصده زوار
مدينة يافا، وأضافت إليه أدراجا للجلوس، ولكن يبدو انه تم إهمال المعلم، ولم يكمل تأهيله.
يقول
تُرك، الذي يعمل الآن معلقا رياضيا، بأن ببارة أبو دية وغيرها من البيارات أنتجت أنواع
لا حصر لها من البرتقال.
ويذكر
المؤرخ خيري أبو الجبين في مذكراته، الأنواع المختلفة التي كانت يافا تنتجها من
البرتقال مثل: البرتقال العادي اليافاوي، والبرتقال الشموطي، وأبو صرة، والفالنسيا،
وبرتقال دم الزغلول، والكباد والبوملي، والجريب فروت، والكلمنتينا، والمندلينا،
ويوسف أفندي، إضافة إلى أنواع أخرى من الحمضيات مثل: الليمون الحلو، والليمون
الحامض، والخشخاش، والبرتقال الصفير والذي كان يؤكل مع قشره، والبرتقال الحلو المسمى
السكري أو الفرنساوي.
أسهم
جريان نهر العوجا إلى الشمال من يافا، والمياه الجوفية التي يمكن الوصول إليها على
عمق أقل من عشرة أمتار، والتربة الخصبة، في صنع مجد يافا في زراعة الحمضيات،
واستثمر أصحاب البيارات، كعائلة أبو دية، مبالغا طائلة في هذا المجال.
وحسب
الدكتور محمود يزبك، الذي صدر له حديثا كتابا عن يافا، فانه لبدء مشروع لبيارة:
"اضطر المستثمر إلى امتلاك قطعة أرض كبيرة وإنشاء نظام ري مكلف، شمل حفر بئر
وإنشاء بركة كبيرة جدًا لجمع المياه وحفر قنوات لنقل المياه إلى الأشجار".
وكان
صاحب البيارة يشغل عمالاً، ومزارعين، ليكونوا جزءا من آلية صناعة البرتقال
وتصديره، والتي تشمل العناية بالأشجار، وقطف الثمار، وتغليفها، ووضعها في
الصناديق، وطباعة ما يشير إلى ماركات أصحاب البيارات.
المنظومة
المائية لبيارة أبو دية التي ما زالت صامدة، كان يوجد مثيلا لها في كل بيارة،
ويتحدث الدكتور يزبك عن نظام الري في البيارات الذي: "يشمل جهازا لسحب الماء عرف
باسم الساقية ويديرها عادة جمل أو حيوان آخر. وبعد أن تسقط مياه الساقية في بركة
لتخزين المياه، يتم سحب المياه من البركة بواسطة قنوات، ثم تسيل في جميع أنحاء
البيارة من هذه القنوات إلى حفرة صغيرة كانت تحيط بكل شجرة. ومن الواضح أن إقامة
نظام ري كهذا وصيانته خلال العام كانتا تتطلبان مبالغ طائلة".
سيرة
تُرك، كرياضي عربي في الداخل، لا تخلو من منغصات، سببها العنصرية الإسرائيلية،
وربما تكون أكبر المنغصات، رؤيته كيف يتم العصف بالمكان الذي شهد طفولته، وقبل ذلك
شهد تشرد شعبه ومعظم سكان يافا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق