أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الجمعة، 3 سبتمبر 2021

مَن موسق الموت..!

مَن موسق الموت..!

زوربا، من حوَّل الموت إلى رقصة

ميكيس ثيودوراكيس، مموسق زوربا، والموت-الرقصة

زوربا اليونانيّ، واحد من أبطال الروايات النادرين الذين يكوّنون شخصياتهم المستقلة، ويحظون بشهرة، وتطلق أسماؤهم على المواليد الجدد، وتتحرك سيرهم بين النّاس، الذين لا يعرفون، في معظم الأحيان مؤلفيها، أو من أي كتب نهضت هذه الشخوص، بعد أن اكتسيت اللحم، ونُفخ الدم في عروقها.

بالنسبة إلى زوربا، فكان له حظ مضاعف، مع تجسيد الممثل انطوني كوين (1905-2001)، لشخصيته على الشاشة الكبيرة، في فيلم من إنتاج عام 1964، ولكن وكما أفاد كوين، فانه من الصعب إنكار دور الأخير على كوين، الذي أضافت شخصية زوربا له فنيا وشهرة، ولموسيقى ميكيس ثيودوراكيس، التي طنّت في أُذن العالم.

في مثل معظم الأعمال المأخوذة عن روايات، تبقى الأفضلية بالنسبة إلى كثيرين، إلى شخصية زوربا الروائية، التي خلقها، الروائي اليوناني نيكوس كازنتزاكس.

في مذكراته (تقرير إلى جريكو) التي نقلها إلى العربية، الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان، يتحدث كازنتزاكس عن زوربا، وعن أصل تلك الشخصية، التي أصبحت، منذ سنوات، علمًا عالميًا.

عذرية دائمة

حدّد كازنتزاكس، عددًا من الّذين اثروا في حياته، وهم: هوميروس، وبوذا، ونيتشة، وبيرغسون، وأيضًا زوربا.

وأشار إلى تأثير كل شخصية من هذه الشخصيات عليه، في جانب معين، ومنها زوربا الّذي "علمني أن أحب الحياة، وأن لا أخاف من الموت".

وقال لو أن سؤال العمر كان مطروحا أمامه، حول اختيار دليل روحي، لاختار دون تردد زوربا، لماذا؟ لأنّه تمتع بأشياءٍ كثيرة ذكرها كازنتزاكس، ربما أهمها، أن زوربا "كان يرى كل شيء باستمرار وكأنّه يراه للمرة الأولى، وانه يمنح العذرية إلى العناصر اليومية والأبدية: الهواء، والنار، والمرأة، والخبز".

وأضاف كازنتزاكس "..وحين أتذكر أي غذاء قدمه المعلمون والكتب، عبر سنوات طويلة، لنفسي الجائعة، ثم أتذكّر أي عقل أسدي صلب منحني زوربا خلال عدة أشهر فقط، عندها أجد صعوبة فائقة في تحمّل المرارة والغضب اللذين أحس بهما".

ينحدر زوربا من قرية على جانب جبل الاولمب، تعرّف عليه كازنتزاكس عندما تشاركا في مشروع مقلع للغرانيت، ولكن المشروع ذهب هباءً، وتبدد في عشق زوربا للحياة ورقصته الشهيرة على شاطئ المتوسط، وعزفه على آلة السانتير، لحن ميكيس ثيودوراكيس.

وبعد أن افترق كازنتزاكس وزوربا، توجه الأخير إلى صربيا، باحثا هذه المرة عن المنغنيز، وجمع حوله ممولين لمشروعه، وشغّل عمالاً وفتح أنفاقًا تحت الأرض وتزوج أرملة.

حجر أخضر

وبينما كانت نذر الدمار تخيم على العالم، بسبب الحرب العالمية الثانية، أرسل زوربا برقية لصديقه القديم كازنتزاكس، يدعوه فيها للقدوم، في رحلة تستغرق ألف ميل لرؤية حجر أخضر، عثر عليه زوربا.

ولكن كازنتزاكس، المشغول بمصير البشرية، اعتبر دعوة زوربا استهتارًا بالإنسانية، فلم يذهب، وأرسل معتذرًا، ووصلته برقية جوابية من زوربا "سامحني لاقتراحي يا ريس، أنت لست أكثر من حامل قلم. كانت أمامك فرصة العمر لكي ترى حجرًا أخضر جميلاً. لكن لم تره. أقسم بالله إنني أحيانًا، حين لا يكون لديّ ما أفعله، أجلس وأسأل نفسي: أهناك جهنم أم لا؟ لكنّني البارحة، حين استلمت رسالتك، قلت لنفسي لا بد من وجود جهنم لاستقبال حملة الأقلام".

وتواصل كازنتزاكس مع زوربا الذي لم يكف عن إرسال البرقيات له، كلما سنحت ظروف تلك الأيّام التي تتمدّد فيها دول وتتقلص أخرى، ومنها برقية عن زوجته "لم أزل أحيًا. البرد قارس هنا بشكل جنوني ولذا تزوجت. اقلب البطاقة لترى وجهها الصغير. قطعة ممتازة أليس كذلك؟ إن بطنها منتفخ قليلاً لأنّها تعد لي فيه زوربا داكي صغيرًا. اسمها ليوبا. والمعطف المصنوع من جلد الثعلب الذي ارتديه هو من مهر زوجتي. سلالة غريبة هؤلاء الناس. لقد أعطتني، أيضًا، سلسلة فيها سبعة خنازير. حبي وقبلاتي. الكسي زوربا: الأرمل سابقًا".

وفي إحدى المرات أرسل زوربا لكازنتزاكس قبعة مزركشة تحتوي على جرس في رأسها ومعها كلام: "البسها يا ريس حين تكتب هذا الهراء الّذي تكتبه. إنني ألبس قبعة مشابهة حين أعمل. والنّاس يضحكون مني ويسألونني: هل أنت مجنون يا زوربا؟ لماذا تحمل هذا الجرس؟ لكنني أرفض أن أجيبهم، نحن، كلانا فقط نعرف لماذا نلبس الجرس يا ريس".

موت ولعنة

وبعد أشهر جال فيها كازنتزاكس في قرى كريت، عاد إلى بيته، ليجد رسالة في انتظاره "أنا أستاذ القرية. وإنني أكتب لأخبرك بالنبأ المؤسف. وهو أن الكسي زوربا، الذي كان يدير منجم منغنيز هنا، قد توفي يوم الأحد الماضي في الساعة السادسة مساء. دعاني في نزعه الأخير وقال لي: تعال قربي يا أستاذ. لدي صديق في اليونان. حين أموت اكتب له وأخبره بموتي، وبأنني ظللت مالكا لقواي العقلية حتى النهاية. وإنني كنت أفكر فيه. وإنني مهما كان ما فعلته فإنني لست آسفا على شيء. قل له إنني أرجو له الخير وأنه قد حان الوقت له أن يضع عقله في رأسه. وإذا جاء أي قس ليستمع إلى اعترافي ويمنحني الغفران قل لذاك القس انه يستطيع أن يكون فريد زمانه، ويستطيع أن يمنحني لعنته! لقد فعلت هذا الشيء أو ذاك وأشياء أخرى في حياتي. لكنني لم افعل إلا القليل. الناس الذين يشبهونني يجب أن يعيشوا ألف سنة. عمت مساء".

وما أنهى كازنتزاكس البرقية حتى تمتم لنفسه وسط الدموع "راح زوربا. راح إلى الأبد. ماتت الضحكة. وانقطعت الأغنية. وتحطم السانتير. وتوقفت الرقصة على حصى الشاطئ. والفم الذي كان لا يهدأ عن طرح الأسئلة أصبح الآن مليئًا بالتراب. ولن توجد أبدًا بعد اليوم يد تلاطف الحجارة والبحر والخبز والنساء".

وأخذ يصرخ: "أرواح كهذه يجب أن لا تموت. هل في وسع الأرض والماء والنار والحظ أن تعيد تشكيل زوربا آخر؟".

يكتب كازنتزاكس: "لم أستطع أن أغمض عيني طوال الليل. وراحت الذكريات تتلاحق. كل منها تزحم الأخرى. فيتصاعد القلق والإعياء إلى راسي كأنما في محاولة لتجميع زوربا من جديد من الهواء والتراب والحفاظ عليه من الضياع. حتى أصغر الحوادث المتعلقة به بدأت تتوهج وتتسارع وتزداد مكانة في الذاكرة مثل سمكة ملونة في محيط شفاف تخترقه أضواء الصيف. لم يمت منه شيء في أعماقي. وبدا لو أن كل شيء لمسه زوربا قد أصبح خالدًا".

ويضيف: "طوال الليل ظللت أفكر. ماذا أستطيع أن أفعل لكي اطرد الموت -موته- مني؟ وانفتح الباب في أعماقي. وتقافزت منه الذكريات تدعو إحداها الأخرى كي تغفو على قلبي. وبدأت تحرك شفاهها لتدعوني أن أجمع زوربا من التراب والبحر والهواء وأن أعيده للحياة. ألم يكن هذا واجب القلب؟ ألم يخلق الله القلب لهذا الغرض بالذات: أن يبعث الأعزاء ويعيد إليهم الحياة؟ ابعثه!".

وظل كازنتزاكس، في فراشه حتى اخترقته شمس الربيع، وأبانت عن منحوتة، كان والده علقها فوق رأسه: "هذه المنحوتة قد كشفت لي سر حياتي ببساطة مدهشة. وربما أنها كشفت لي سر زوربا أيضًا. كانت نسخة من حجر منحوت على قبر، تحتوي على محارب عار لم يتخل عن خوذته حتى وهو يموت. وكان المحارب راكعًا على ركبته اليمنى، وهو يعتصر صدره بكفيه، بينما ترفرف بسمة هادئة على شفتيه المطبقتين. كانت الحركة البهية لهذا الجسد المتين من نوع يجعلك تحار فيما إذا كانت الحركة حركة استسلام للموت أو حركة في رقصة. أم لعلها رقصة وموت معا؟".

ويضيف كازنتزاكس "حتى لو كان الموت يجب أن نحوله إلى رقصة".

وانبعث زوربا الذي حوّل الموت إلى رقصة، في رواية، يحلو للكثيرين وصفها بالخالدة.

#زوربا

# ميكيس_ثيودوراكيس

# نيكوس_كازنتزاكس

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق