أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأحد، 16 فبراير 2025

عن "يوميّات كاتب في انتفاضة مغدورة"/ عمر شبانة


 تذكّرنا عبارة "بهِمِّش" في عنوان الكتاب الجديد للروائيّ والكاتب الفلسطينيّ أسامة العيسة، بعبارة الصحافي في قناة الجزيرة وائل الدحدوح "معَلِشّ" بعد استشهاد ابنه وعدد من أفراد عائلته، ثم الاستهداف المباشر والمقصود له. للعبارتين معانٍ مشتركة، فهما تتضمنّان التهديد والوعيد للعدو الصهيوني على ما اقترفه من إبادة جماعيّة لأهل غزة والضفة الغربية، في صور شتّى. هما عبارتان وليستا مجرد كلمتين، تعبّر كلّ منهما عمّا يمكن للفلسطيني أن يقوم به في هذه المواجهة غير المتكافئة ولكن المفتوحة على الاحتمالات في عبارتين تختزلان الكثير: بِهِمِّش، مَعَلِشّ. بهمّش التي هي اسمٌ لما بدا أنه الانتفاضة الثالثة (2015)... "انتفاضة بهمّش" وذلك بسبب "تردادها من قبل الحاج زياد أبو هليّل الذي كان ينزل إلى نقطة تماس المواجهات في مدينة الخليل، محاولًا حماية الفِتية من الجنود، مخاطبًا الجنود بلهجته المحليّة وبأسلوبه الذي عرفه الناس من خلال الفضائيّات: بهمّش".    

هذا ما يؤكّده المؤلّف في مقدمته لكتابه، التي حملت عنوان "خطبة اليوميّات"، أي أنّنا أمام "أدب اليوميّات"، وينطلق العيسة في كتابه هذا "بهِمِّش: يوميّات كاتب في انتفاضة مغدورة" الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 328 صفحة، 2025، من مخيّم عايدة، مع التفاصيل الصغيرة التي يجيد سبكها وسردها، تفاصيل تتعلّق بالزمان الذي هو 18 شباط/ فبراير 2024، والمكان وهو مخيّم عايدة، بمحاذاة الجدار الضخم المحيط بقبّة راحيل، هذا المقام الإسلاميّ المسيحيّ الذي استولى عليه المحتلّون، وحوّلوه إلى جيب عسكريّ استيطانيّ، وتمّ ضمّه إلى بلدية القدس، هذه البلدية الاحتلالية. وهنا أيضًا تقع العيون على جنود من جيش الاحتلال يحرسون المقام من أصحابه الفلسطينيين، كما يصرّح العساكر الصهاينة أنفسهم.

وكما تابعنا العيسة في إبداعه الروائي، وأسلوبه السرديّ المتميّز، وتابعناه أيضًا في كتب توثيقية وشهادات واقعية، فإننا نتابعه هنا في رسم شخصيّات واقعية- حقيقيّة من الشارع الفلسطينيّ، وبما يشبه رواية وثائقية، حيث نبدأ بشخصية الطفل عبد الرحمن شادي عبيد الله الذي استشهد يوم 5/ 10/ 2015، ودُفن في المقبرة الإسلامية الرئيسة في بيت لحم، قريبًا من المقام المذكور أعلاه. مقام تحوّل إلى نقطة تماس بين أطفال الحجارة ووحوش الجيش الصهيوني وأجهزة أمن السلطة معًا، بعد اتفاقات أوسلو.

يكتب الكاتب عن الانتفاضة- الانتفاضات المغدورة- المهدورة، ولكن المستمرة والمتواصلة في صور عدة، فهو يلتقط مشاهد من مقاومة أطفال الحجارة واشتباكهم مع جنود الاحتلال من جهة، واعتداء أجهزة أمن السلطة عليهم من جهة مقابلة، في ما يشبه رصد يوميّات المواجهات بعينين قادرتين على توثيق المشهد ووضعه في سياقه، والتعليق عليه بكل ما يحيط به من مفارقات ترى أجهزة أمن السلطة وعملها "في خدمة العدوّ الصهيوني جهارًا نهارًا". وهذه الحالة يمثّلها الاعتداء على فتى بطريقة وحشية، ثم اعتقاله لاحقًا من الجيش الإسرائيلي، واستشهاده. وحين أدان بعض السياسيين الفلسطينيين هذه العمليّة الوحشية، تمّ اتهامهم بأنهم "من الطابور الخامس الهادف إلى زرع بذور الفتنة بين أبناء الشعب الفلسطيني".

في الكتاب أيضًا، وكما في كتابه السابق "شهداء الرب"، الذي جمع فيه شهادات عن شهداء الانتفاضة من الأطفال، ثمة مشاهد سريعة بتأمّلات عميقة ومعبرة تجسد مشاهد سينمائية مؤثرة. فـ"متطوّع الإطارات"، وهو قريب أحد الشهداء، يأتي "واثقًا هادئًا ناقمًا... يُنزل الإطارات من صندوق مركبته، يقبض بشفتيه على سيجارته المشتعلة، يمكن أن أتخيّله في مشهد سينمائيّ، يمسك عقب سيجارته بعد الانتهاء من تنزيل إطاراته، ويقذفها نحوها فتهبّ النار وتتصاعد علّها تشفي غليل المقهورين". مشهد واقعي يمارسه الفلسطينيون ويشاهدونه كل يوم. لكنّ طبيعة السرد هنا تمنحه تلك السحرية في الرواية، ما يحوّل "حياة المقاومين من الأطفال"، هذه المقاومة الواقعية أقرب إلى الأسطورة. وسنقف في مقالنا هذا أمام أبرز ملامحه.

ومن بين حكايات كثيرة، حكاية "فتى الكرسيّ" العنيد، جزء من حركة المنتفضين والمقاومين في بيت لحم. فتى يحمل كرسيّه البلاستيك، ويجلس وسط جزيرة في شارع من شوارع بيت لحم. تناله حجارة المقاومين من جهة، وقنابل غاز جيش المحتلّين الصهاينة من جهة مقابلة، لكنها لا تثنيه عن جلسته "الاستعلائية" التي يتأمّل من خلالها العالم من حوله، ولا يترك مكانه إلّا حين يقترب الخطر، فيحمل كرسيّه وينتقل إلى أزقة المخيّم وشوارعه، حتى يتراجع الخطر، فيعود إلى كرسيّه- عرشه، لا يتبادل الكلام مع كثيرين، يحافظ على غموضه.

هل يحقّ للفلسطينيّ المسيحيّ الذي يُقتل في المواجهة مع قوات الجيش الصهيوني، وهو يحمل الصليب، أن يوضَع في خانة "شهيد"، أم أن صفة شهيد مخصّصة للمسلم؟ هذا السؤال واحد من أسئلة عدة يطرحها العيسة، وبعبارات قليلة يجيب عليها، إذ يعود إلى تلك الحقبة التي عرفت الحدود بين المناضل والعميل، ورُفع الصليب بجانب الهلال في المظاهرات، ويكثف العيسة "الصليب ليس أداة سحرية لكشف العملاء فقط، ولكن يمكن أن يكون- أيضًا- رمزًا مهمًّا للانتفاضة الكبيرة المقبلة، يحيل إلى الشهيد الفلسطينيّ الأوّل في مواجهة الاحتلال الرومانيّ والسلطة الدينية، وهو الذي يحظى باحترام مليارات الناس في العالم...".

"لاعبات البنانير" كما يطلق عليهنّ المؤلّف، ظاهرة ترتبط برماة الحجارة والبنانير، تقوم الفتيات فيها بتزويد الشبّان بالبنانير التي يصطادون بها عيون الجنود الصهاينة. فتيات يشترين البنانير من مصروفهنّ اليوميّ، تقول إحداهنّ "نريد إحراز أكثر النتائج إبهارًا، لذا فإنّ من يقذف الكرات هم من نثق بهم أكثر من كلّ اللاعبين السياسيّين المُضجرين...". ووفاءً لهذه "اللعبة" التي كان يمارسها السّارد- المؤلّف في شوارع المخيّم المُتربة، يقرر تقديم تبرع (5 دولارات) لشراء ذخيرة! وارتباطًا بظاهرة البنانير، يرسم المؤلّف صورة فتى في الحادية عشرة تلتصق به صورة حامل زجاجة من الحجم العائلي مملوءة بالبنانير، يقول إنه يحملها دائمًا لكي يكون "جاهزًا لتزويد من يطلب من الرماة الماهرين".

هي إذًا محاولات لأسطرة المقاومة والمقاومين، في حكايات وشذرات ولمحات سريعة، كلّها لتخليد صور من المقاومة، وابتكار الموازي الأدبيّ لما يجري على الأرض من وقائع خارقة، تصبّ كلّها في نهر الكفاح متواصل الجريان. ونواصل في هذا النهر الطويل والعميق، زمانًا ومكانًا، مع كاتب يرصد بوعي ثاقب وعينين حادّتَي الرؤية، تفاصيل النضال الصغيرة وهي تبني هرم المقاومة الأكبر. مقاومة مهدورة بفعل قوى المساومة. وهي مقاومة تقوم على جهود الفتيان (والأطفال)، الأمر الذي يؤكد أسطوريّتها، ويمنحها تميّزها.

حكايات كثيرة تستوقفنا مع المؤلّف، لا يمكننا الوقوف معها، لذا نقف، أخيرًا، مع حكاية هي بعض من حكايات الأمكنة، إذ يتوقف العيسة عند الأمكنة التاريخية البارزة والمعروفة، منها على سبيل المثال "جبل المكبّر"، هذا الجبل صاحب السيرة الميثولوجيّة الخرافية "لقاء توماس مان وعنترة بن شدّاد، وشيطنة الملك داود... مكانته أسيرة ميثولوجيا الدين الإبراهيميّ بتجلياته في الميثولوجيا اليهودية، المكان الذي أطلّ منه أبو الأنبياء، على جبل الموريا وهو يقود ابنه إسحق ليضحّي به...". فيما عُرف الجبل في الميثولوجيا المسيحية باسم "جبل المؤامرة" أو "جبل المشورة الفاسدة" حيث تقع فيه دار الكاهن الأكبر، المكان المفترض لاجتماع يهوذا الإسخريوطي والكهنة والقادة العسكريين، والاتفاق على تسليم السيد المسيح. ويذهب العيسة إلى أن ملحمة الاستيطان العربي الجديد للجبل تحضر في رواية محمود شقير "فرس العائلة"، ولا ينسى التذكير ببيت الشعر الشهير للشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) مهدّدًا قصر المندوب السامي الذي أقيم على الجبل، وفيه يقول أبو سلمى:

جبلَ المُكبّر، لن تلين قناتُنا
حتى نحطّمَ فوقكَ الباستيلا... 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق