منسية مثل بلادي رجاء

يحرص طلعت الخطيب (60) عاما، في يوم 19-12 من كل عام، على رواية حكاية استشهاد شقيقه اسماعيل الخطيب، لأبنائه ولمعارفه، فذكرى استشهاد عمه ورفيقيه عبد الله تايه، وعبد الكريم عقل، عام 1955، التي كانت شرارة الهبة التي شهدتها ضفتي الاردن ضد حلف بغداد، ما تزال تسكن وجدانه، رغم كرور السنوات.

في يوم 18-12-1955، وصل محتجون على محاولة ضم الأردن إلى حلف بغداد العسكري الانجلو-أميركي، إلى السفارة البريطانية في القدس، صعدت الطالبة رجاء أبو عمّاشة الآتية من مخيم عقبة جبر في أريحا لإنزال العلم البريطاني عن ساريته، عاجلتها رصاصات قاتلة، تحولت رجاء إلى رمز. في اليوم التالي، سالت الدماء في بيت لحم، وتحول الشهداء الثلاثة، من مدرسة بيت لحم الثانوية، إلى رموز.

وقف معلمهم فهيم جَبّور في طابور الصباح، وبث فيهم الحماسة، خرجوا متظاهرين إلى ساحة المهد، لم تحتمل الحكومة صرخاتهم، ففتح جنود الجيش العربي، بقيادة غلوب باشا (ابو حنيك) البريطاني،  النار.

أثرت شخصيات هؤلاء بعد استشهادهم، في كثير مِن أبناء جيلهم، وكذلك فعل مُدَرّسهِم وقدوتهم فهيم جَبّور، الذي زرع في طلابه بذور الوعي الوطني والقومي، وهو ما يمكن لمسه من ابناء جيلهم، ودُفن الثلاثة في مقبرة قبّة راحيل.

عاشوا طلبة الثاني الثانوي هؤلاء، في خيال طلعت الخطيب، الذي كان صغيرا، عندما وقعت تلك الاحداث في ساحة المهد، وما زال يحتفظ في منزله، بصورة عمه إسماعيل الخطيب بالأبيض والأسود، يرتدي الشهيد إسماعيل في الصورة بذلة أنيقة، وربطة عنق، حداثة الخمسينات، ورغم انه يبدو أكبر من سنه بسبب الزي الرسمي، الا ان ذكاء العينين الطفولي، والملامح البريئة، تشي يغير ذلك. خُط أعلى الصورة بيت من الشعر لعبد الرحيم محمود شهيد معركة قرية الشجرة:

"لعمرك هذا ممات الرجال-ومن رام موتًا شريفًا فذا"

وجدت الاحداث التي شهدتها ضفتي الاردن في تلك الاوقات، تعبيرات في الفن والادب، وهو ما يمكن، مثلا، استشفافه، من لوحة زيتية شهيرة لرجاء أبو عمّاشة (1939-1955)، التي تفيض منها القوة والتحدي والجمال، ولا تبدو بانها صورة لطالبة في الثاني الثانوي، إنما لامرأة مكتملة الشخصية، بشعرها، وعينيها، وتقاطيع وجهها، بدت كأنها زعيمة ثورية تهز الأرض بنظراتها.

عندما سقطت رجاء، رثاها الشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) الملقب بزيتونة فلسطين:

منسية مثل بلادي رجاء ... مرّت كما مر شعاع الضياء

أغفت على سفح أريحا ... ولا من أدمع  الا دموع السماء

ولفها الليل برفق ولا........ من مؤنس الا النجوم الوضاء

في مقبرة قبة راحيل، زحفت الاسوار التي بنتها قوات الاحتلال حول القبة بعد ان حولتها الى مقام يهودي، الى قبر يعلوه شاهد من الحجر الأحمر، يعلوه فراغين لصورتين على الأرجح، كُتب عليه: "ومشى الشهيد إلى الخلود وثغره متبسم. من كلّ ناحية يصيح: لتفهموا. فليسقط المستعمرون ومن بهم يستعصمُ. ولتهنأ الأجيال ان قبورنا تتحطمُ. الشهيدان: عبد الله تايه ولد في بيت عطاب بتاريخ 15-12-1928 ميلادية. وعبد الكريم جميل عثمان عقل. ولد في قرية لفتا بتاريخ 4-8-1928م. استشهدا في بيت لحم بتاريخ 19-12-1955م. برصاص السفاح كلوب (و) أعوانه الخونة يوم هب الشعب الأردني الأبي ضد حلف بغداد المجرم".

وفي النهاية اقتباس للشاعر عبد الرحيم محمود:

"سأحمل روحي على راحتي     والقي بها في مهاوي الردى

إما حياة تسر الصديق          وإما حياة تغيظ العدى"

بيت عطاب دمرها الإسرائيليون، وحولوها إلى مقصد سياحي، ولفتا، دُمرت وبني على أنقاضها أجمل أحياء اليهود في القدس، والشجرة، التي سقط على ثراها ابن عنبتا عبد الرحيم محود، غابت في مهاوي الردى.

قبر يضم رفات صديقين حلما بوطن حر واستشهدا معًا. وليس بعيدًا عن هذا القبر، يقبع قبر أخر معتقًا بحجارته المشربة بالحمرة، نٌقش على شاهده غصنان وفجوة صغيرة مستطيلة فارغة، ربّما استقر فيها يوم ما صورة الشهيد: "ذكرى شهيد الحريّة إسماعيل داود الخطيب من عين كارم. استشهد في مدينة بيت لحم يوم الاثنين بتاريخ 19-12-1955. لا الموت يفنيني-ولا القبر.....، والنور ربي......، إنسان اليوم محراب الغد، مذبح التجديد طريق الأجيال، ولد بتاريخ 27-3-1938". 

لماذا دُفن إسماعيل وحده؟ هل لا يتسع قبر لثلاثة فتية. سقطوا برصاص وصلهم إلى مدينتهم، وساحتها التي شهدت مرور غزاة لا يعدون. وكل منهم جرّب غطرسته وقوته في أبنائها؟.

لا يعرف طلعت الاجابة عن هذه الاسئلة، ولكنه يسمح لنفسه بالتخيل، لوّ ان رجاء، وعبد الله، وعبد الكريم، وإسماعيل عاشوا، فماذا سيكون حالهم اليوم؟.

ويجيب: "لا شكّ انهم كانوا سيشقون طريقهم في الحياة، إسماعيل كان سيصبح مثل عمه الدكتور عمر الخطيب، الإذاعي، الذي اشتهر في الوطن العربيّ بتقديمه برامج المسابقات، كلّ مَنْ عرف إسماعيل تحدث عن نبوغه المبكر وشبهه بعمه. ولكن لغة الرصاص كان لها رأي أخر".

في احداث ساحة المهد تلك، أُصيب، ايضا، المرحوم شحادة صلاحات، الذي كان يدير مطعما شعبيا في الساحة، وعاش يعاني إعاقة في أحد رجليه، ومن المفارقات بان ابنه عمر الذي كان واحدا من المقاومين الذين دافعوا عن بيت لحم خلال عملية السور الواقي (نيسان 2002) اصيب ايضا في رجله برصاص جنود الاحتلال، في نفس المكان الذي اصيب فيه والده، وظل ينزف، حتى استشهد، لعدم تمكن سيارات الاسعاف من الوصول الى ساحة المهد في تلك الايام العصيبة.

يتنهد طلعت بحزن والم: "في الواقع كل ايامنا عصيبة..!! تتوالى العهود والدول، وتتوالى الالام على شعبنا".