في القدس: قبر أميرة وقلب شاعر

على إحدى تلال جبل الزيتون (الطور) المطل على القدس، ترقد أميرة أوروبية، أعادت الاعتبار، لاحد الاماكن التي يُعتقد انها مرتبطة بحياة السيد المسيح، في القدس، ليس بعيدا عن ما يُعتقد انه مكان صعود المسيح، بعد ان غضب من القدس وناسها، هاجيا المدينة في احدى النصوص الخالدة: "أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرةً أردتُ أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا".

وصلت الأميرة (دلا توردوفرن) التي عاشت بين عامي (1809-1889م)، الى فلسطين، في منتصف القرن الثامن عشر، واشترت ست دونمات من الارض، وبعض البيوت القديمة على جبل الزيتون، وبحثت عن احدى المغر الثلاث، الاكثر قدسية لدى المسيحيين، وهي مغارة المهد في بيت لحم، ومغارة القبر المقدس، والمغارة التي علم فيها المسيح تلاميذه، واشتهرت باسم مغارة "ابانا الذي.." نسبة للصلاة الربانية التي تعتبر اهم صلاة في المسيحية، وتُعرف على نطاق واسع باسم (ايلونا) والتي تعني جبل الزيتون باليونانية.

أعلنت الاميرة، تمكنها من العثور على المغارة، بمساعدة شاب فرنسي اسمه (كلرمون غالو)، ثم بمساعدة (فيوليت لدوك)، بنت رواقا جميلا على نسق كنيسة بيزا في ايطاليا حول المغارة، ثم بنت دير الكرمل في هذا المكان.

قصة حياة الاميرة كما تقدمها الروايات المسيحية، فيها الكثير من القص الاسطوري الذي رافق حكايات اخرى عن نبيلات من خلف البحر المتوسط، هجرن حياة البذخ، والمجون، وجئن الى الاراضي المقدسة، ليبدأن حياة جديدة، في محاكاة غربية، لقصة رابعة العدوية، التي لها مقام في جبل الزيتون غير بعيد عن كنيسة ايلونا.

اهدت الاميرة، المكان الى فرنسا، التي اعلنت انها سترممه، وتعيد المغارة كما كانت في زمن المسيح، التي تقول الروايات الدينية، انها كان يلجأ اليها، بعد ان يمضي نهاره في الهيكل داعيا الى معتقده الجديد، وفي الليل يأتي الى المغارة، باعتبارها مكانا اكثر امنا يعلم فيها تلاميذه.

وعلى موقع هذه المغارة، بنت القديسة هيلانة، والدة قسطنطين الذي جعل المسيحية، ديانة الامبراطورية الرومانية، كنيسة باسم (كنيسة التلاميذ وصعود المسيح).

الحفريات الاثرية كشفت عن اساسات هذه الكنيسة، والتي كانت بالمستوى الاعلى وبشكل مستطيل بمساحة 30 متر طول وعرض  18.6 متر، وصفين من الاعمدة والمذبح مواجه لجهة الشرق، المستوى المتوسط هو الساحة الامامية للكنيسة طوله حوالي 25 متر مزين بالأعمدة والمستو المنخفض هو الرواق وكان لجهة الغرب مغطى على ستة اعمدة.

في اثناء التنقيب عن الاثار في عام 1868 تم العثور على لوحة فسيفسائية للكنيسة مكتوب عليها ايتين من المزامير.

ومن سنة 334م الى سنة 614م، جرت العادة، ان يدفن مطارنة القدس في هذه المغارة، ويمكن رؤية ستة قبور موجودة فيها حتى الان. منها قبر القديس كيرليوس، بطريرك القدس (386م).

دمر الفرس الكنيسة، في أيار عام 614م، واعاد الصليبيون بناءها عام 1099م، وكما سيظهر لاحقا، فانها مثل كثير من دور العبادة، تأثرت بالسياسة المشبعة بالاعتقادات الدينية التي ميزت الصراع على فلسطين، فالكنيسة تضررت بعد ان هزم صلاح الدين الايوبي، الصليبيين عام 1187م، ودمرت عام 1345م، بعد ان اصبحت فلسطين مملوكية، يحكمها سلاطين يتقاتلون داخليا، ويقاتلون خارجيا.

في فترة العثمانيين الاخيرة، ومع سماح سلاطين الامبراطورية التي كانت تغذ السير الى الافول، ببناء دور عبادة، جاءت الاميرة الى ايلونا، والتي رغبت بكتابة الصلاة الربانية في المكان باثنتين وثلاثين لغة، والان فان لوحات السيراميك، التي تملا المكان، خُطت عليها تلك الصلاة بمئة وسبعين لغة، وذلك وفقا للقائمين على الكنيسة، ووهبت لوحات الابانا هذه من جميع الكنائس، ومنها البروتستانية، والارثوذكسية، والانجليكانية.

ترقد الاميرة التي ولدت باسم (اوريلي دبوسي)، والتي لولاها لربما بقي المكان منسيا، في مدخل رواق الكنيسة، تكريما لتكريسها 17 عاما من عمرها من اجل المحافظة عليه، وفوق القبر، يمكن رؤية جرة، تحتوي على قلب والدها البارون (د بوسي)، وهو سياسي وشاعر ايطالي مشهور (1758-1823م).

الحكايات والاساطير، تعيش في نسغ التاريخ في فلسطين، ولا تتوقف، في عام 1915م، مثلا زعمت احدى الرواة، انه أُلهم لها ببناء كنيسة مكرسة لقلب يسوع الاقدس في القدس، لأنه بهذه الطريقة ستنتصر فرنسا في الحرب ويستقر العالم ويعيش بسلام، ولكن لا احد استطاع اكمال الكينسة، لان المغارة هي لجميع اصحاب المسيح ولا احد يستطيع ان يحتكرها لنفسه.

لم تُكمل الكنيسة، ولم يحل السلام في العالم، والمدينة التي دب في شوارعها، نبي السلام، ما زالت تفتقد سلامها الخاص، وكل جهة تريد احتكارها لنفسها، فيزيد الألم، ويتعمق.
http://www.alhayat-j.com/pdf/2012/8/16/page11.pdf