الزمن.. سلاح فتاك لا
يقوى شيء على مواجهته، يعبر ويمضي تاركًا خلفه حيواتنا وتفاصيلنا وأحلامنا، يظل
هاجس الخلود أقوى هواجس الإنسان عبر التاريخ اعتقادًا منه أنه الوسيلة الوحيدة
لكسر هيمنة الزمن، غافلًا عن أن الحكايات وحدها هي من تجسر على مجابهة الزمن وكسر
سطوته، تطل برأسها عبر ثناياه غير آبهة بم يحدث، يحاول الزمن معها بشتى الطرق
ويفعل أفاعيله بها، أقصى ما يمكنه فعله هو إضافة بعض التفاصيل أو حذفها، إلا أنه
يفشل في محوها طالما بقي وسيط ينقلها، وليس هناك وسيط أقوى من السنة البشر.
تتلاقى الحكايات مع
التاريخ لتنسج ملحمة من الصمود والمقاومة، إنها رحلة عبر أزقة القدس القديمة
وحاراتها العتيقة، رحلة عبر ذاكرة شعب متجذر في أرضه، يحمل تاريخه في قلبه
ويتناقله همسًا بين الأجيال.
"الحكي الشفهي" هو السلاح الذي يرفعه المؤلف في وجه
النسيان، إنها قدس السبعينات التي مازالت تحتفظ ببعض من تاريخها القديم كما اعتاد
عليها أهلها المقدسيون قبل النكبة، فالحكايات التي تنتقل من الجدات للأحفاد، ومن
الآباء للأبناء، هي التي تحفظ تاريخ القدس وتفاصيلها الدقيقة في ذاكرة شعبها. إنها
درع واقٍ يحمي المدينة المقدسة من الضياع، ويُبقي جذوتها متقدة في قلوب أبنائها.
يبرز والد البطل
"أبو كافل" فهو يعي تمامًا أهمية الحكايات في حفظ تاريخ القدس وهويتها،
ويحرص على تلقين ابنه "كافل" هذه الحكايات منذ نعومة أظفاره. يقص عليه
حكايات الأجداد والآباء، حكايات المقاومة والصمود، حكايات الأزقة القديمة والحارات
العتيقة. يروي له قصص البطولة والتضحية، قصص الحب والأمل، قصص الحزن والفقد، قصص
الاحتلالات المتتالية والروايات الدينية التي اختلطت بالحكايات وتحولت إلى أساطير،
كل أصحاب دين يؤولونها حسب معتقدهم كدليل إثبات أن قدسية المدينة تخصهم وحدهم، ولا
يقاسمهم فيها غيرهم.
"أبو كافل" ليس مجرد أب، بل هو معلم وموجه وفدائي مناضل،
يزرع في نفس ابنه حب القدس والتعلق بها. يأخذه في جولات ميدانية في أزقة القدس
وحاراتها، يشير إلى البيوت القديمة ويحكي له قصص ساكنيها، يمر بالمساجد والكنائس
ويحدثه عن تاريخها، يقف عند أسوار المدينة ويشرح له أهميتها.
بفضل أبيه، يتحول
"كافل" إلى راوٍ لتاريخ القدس وحارس لذاكرتها، رغم تقلبات الدنيا ومرور
الزمن، إلا أنه يعود في النهاية لمسقط رأسه يحاول إحياء ذاكرته وروحه، لم ينس
القدس وأهلها، لم ينس خساراته الشخصية وأوجاعه، لم ينس أمه البسيطة المغدورة، لم
ينس "لورا" التي أحب والتي لم تنسه أيضًا، عاد يحمل على عاتقه مسؤولية
نقل الحكايات للأجيال القادمة، متمثلة في ابنه، ليضمن استمراريتها وتحديها للنسيان
والزمن.
"سماء القدس السابعة" ليست مجرد عنوان، فعلى شاعريته، هي
رمز للسموات السبع التي يجب أن يرتقي إليها المؤمن لبلوغ القدس السماوية. وفي
الرواية، ترتقي الحكايات إلى هذه المكانة المقدسة، حاملة معها تاريخ المدينة
المقدسة وحكايات أهلها المقاومين للنسيان.
رواية "سماء
القدس السابعة" تذكير قوي بأهمية الحكي الشفهي في الحفاظ على الهوية
والتاريخ. دعوة لاستلهام تجربة أهل القدس في المقاومة عبر الحكايات، وتذكير لنا
بأننا جميعًا رواة لتاريخنا وحماة لذاكرتنا الجماعية. تقول "لور" في
ثنايا خاتمة الرواية موجهة حديثها إلى "كافل":
"أُكمل دور والدك في رواية الحكايات، نروي الحكايات لنفتدي
أعمارًا، كما فعلت شهرزاد، أو للمقايضة، كما كانت تفعل والدتك، بين الحكي والطعام،
أو لبث الروح في الجسد والعظام، كما فعل والدك وجدي، ليرأف بهما تراب الوطن
الغالي".
شكرًا أسامة العيسة
على هذه التحفة والأيقونة التاريخية.. شكرًا منشورات المتوسط على هذا الإخراج
الأنيق.