تراقب شجرة الميس المعمرة، قرب دير مار إلياس، على طريق بيت لحم- القدس، ما يجري قبالتها، من تجريف واسع، لإقامة مدينة استيطانية جديدة على تلة طبالية الأثرية، ولكنها لا تستطيع الكلام، مثلما حدث معها، في منعطفات تاريخية كانت شاهدة عليها، عصفت بالأرض المقدسة.
ربما كانت شجرة الميس، التي يطلق عليها المواطنون "الميسة" كما يقول جورج نسطاس، الذي شب قريبا منها، بتجديد نفسها، مع خلعها ثوبها الشتوي، والعناية بابنتها التي نبتت بجانبها، وشبت وكبرت، لتبدد وحشة والدتها، إزاء التغيرات الجذرية والسريعة التي شهدتها خلال العقود القاسية الماضية.
يقول المربي المتقاعد عمر عثمان (1938-): "شجرة الميس على الطريق العام بين القدس وبيت لحم، كبيرة وهرمة، متشابكة الجذوع والفروع، لا يعلم أحد من زرعها، ولا يعلم أحد ما عمرها، وربما انبثقت من الأرض، لقد تمت المحافظة عليها طوال السنين، ولغاية الآن، حيث بني حولها عدة مداميك".
شجرة الميس فرضت وجودها على المشهد العام، رغم ثرائه، بمواقع أثرية ودينية، وأضحى لها، الآن، طرقة صغيرة مؤدية لها، وتحت ظلها ما زال كثيرون، يجلسون، ينظرون ويتأملون، وبعضهم يتناول طعامه.
يتذكر عثمان، وهو من بلدة بيت صفافا القريبة للشجرة: "تعود بي الذكريات، إلى ما كنت وزملائي نفعله أيام الخميس ظهرا، بعد الدوام المدرسي، حيث كان لدينا الوقت الكافي للذهاب إلى شجرة الميس، لنتسلقها ولنعلو بين شبكة الأغصان والأوراق الكثيفة، لنقطف ثمارها الصغيرة التي تبدأ باللون الأخضر ثم تتحول للأصفر ثم يصبح لونها أسود عند نضوجها، كنا نملأ جيوبنا بثمارها السوداء الصغيرة حلوة المذاق ونأكلها، كما كنا أحيانا نكسر بذرتها بأسناننا ونبتلعها".
يضيف عثمان: "بعد مرور ساعة، كنا نعود إلى القرية فرحين، وقد أخذ التعب منا كل مأخذ ولكن كنا جذلين بما فعلناه".
تجاور شجرة الميس، بئر قادسمو، التي كانت محطة مهمة على طريق القوافل بين الشام ومصر، وكنيسة الاستراحة المثمنة، التي تظهر بقاياها واضحة، وتعتبر من أهم الكنائس المثمنة المكتشفة في فلسطين، ودير مار إلياس التاريخي.
في عام 1948م، شهدت شجرة الميس، على المعارك الطاحنة بين المقاومين الفلسطينيين، والمتطوعين المصريين والعرب، والعصابات الصهيونية، عندما اتخذ الجانب العربي من تلة مار إلياس، معسكرا له، في مواجهة مستوطنة "رمات راحيل"، وذكرت هذه المواجهات بتوسع لدى مؤرخين ومشاركين في تلك المعارك، مثل الجنرال الأردني عبد الله التل، والصحفي المصري محمد حسنين هيكل الذي غطى الأحداث.
وبعد النكبة، أصبحت شجرة الميس، وما يجاورها، ضمن المنطقة الحرام. يتذكر جورج نسطاس، إغلاق دير مار إلياس، وفتحه فقط، في مناسبات محددة، وضمن تنسيق بين القوى المسيطرة على جانبي الحدود المرتجلة.
عسكر الجيش الأردني على تلة مار إلياس، مكان الجيش المصري، وخلال المعارك التي شارك فيها الجنود، حدث نصر صغير، عندما أطلق جندي مجهول النار باتجاه طائرة إسرائيلية فأسقطها.
يتذكر المربي عثمان: "في صباح اليوم الثاني للحرب، رأينا الجنود الأردنيين يطلقون قنابل مدافعهم على مدينة القدس الغربية، كما رأينا بأم أعيننا جنديا أردنيا يطلق النار على طائرة استكشاف إسرائيلية ونجح في إسقاطها في منطقة طبالية".
سيتحول إسقاط الطائرة، إلى حكاية، ولدت حكايات، لدى الناس، حول ما حدث، ومصير الجندي المجهول، الذي أثلج قلوبهم، خصوصا في تلك الأيام المعتمة التي أعقبت هزيمة حزيران. على بعد بضعة أمتار من شجرة الميس، أقام المحتلون نصبا تذكاريا للطيار الذي قتل مع سقوط طائرته، وسموا الموقع، تلة الطيار، التي تجري فيها الآن عمليات واسعة لإقامة مدينة استيطانية.
التجريف لا يشمل فقط هذه المنطقة الواسعة، ولكن أيضا الشوارع حول الشجرة، لبناء جسور، وأنفاق، وخط للقطار الخفيف.
يقف جورج نسطاس، أمام منزل العائلة، الذي تقترب منها أعمال التجريف، صامدا، ومثل شجرة الميس، شاهدا على العصف في المكان، يجيل ببصره على الأودية والتلال المحيطة، ليخزنها في ذاكرته، قبل تبددها بأسنان الجرافات.
أما شجرة الميس، وابنتها، فتبدوان مهتمتين أكثر بقدوم الربيع، كي تورقا من جديد، وتظلا شاهدتين، على ما يحدث حولهما.
https://www.alhaya.ps/ar/Article/132049/%D9%84%D9%88-%D9%82%D8%AF%D8%B1-%D9%84%D9%80-%D9%85%D9%8A%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D8%B3-%D8%A3%D9%86-%D8%AA%D8%AA%D9%83%D9%84%D9%85
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق