كنّا
نعلم، بأننا، ما إن نقطع الطريق، من المخيم إلى بيت لحم، عبر دير المجانين، حتى نجده
يعتلي شجرة سرو كبيرة، بل أننا ونحن نسرع، خشية من بعض المجانين الذي يناصبوننا
العداء، لأسبابٍ لا نعرفها، نمني أنفسنا، بأننا أخيرًا سنفرح بوجوده، كما يحدث
دائما.
اسمه
جاسم، بلحية لم يقصها، على الأغلب قط، يرتدي كاب عسكري، وقميص كاكي. عرفنا منه
بأنّه من بلد اسمها الناصرية في العراق، رمته ظروفه في الدير، وحالت ظروف البلاد،
والحرب، دون عودته التي لم يكن يريدها بشكل ملّح، وقطعت أخباره عن أهله، الّذين،
لم تكن لديهم رغبة ملحة، في عودته إلى دياره، وحرم من تلك الزيارات النادرة
والمتباعدة من واحدٍ من الأهل، قد يتذكر بأنَّ له قريبًا في دير المجانين في
فلسطين، التي تقضم، وتقسّم، وتحتل، وأخبارها التي لا تسر تصل إلى الناصرية.
علمنا
من أهلنا، بأنّ جاسم وخمسة من المجانين، شاركوا في المجهود الحربي، عندما استعان
بهم جنود الجيش النظامي، الّذين كانوا يطلقون قنابل مدفعهم من مغر مجاورة لدير
المجانين، باتجاه عدو لا يظهر، خلال حرب الأيّام الستة، ورغم جنونهم اكتشف
المجانين الستة، بأنَّ القنابل لم تكن محشوة إلا بخرق بالية، وعندما ظهر العدو
أخيرًا، وقصفت طائرته الموقع، مات خمسة مجانين، وهرب جاسم، عائدا إلى ديره، غانما ملابسه
العسكرية.
يسرع
أحدنا، من أصحاب البصلات المحروقة، إلى الشجرة، وينظر إلى الأعلى، ويطمئننا بإشارة
من رأسه، بأنَّ صاحبنا جاسم على شجرته، وكأنّه لا يريد أن ينزل منها أبدًا.
عندما
نتجمع تحت الشجرة، ننظر إليه، وكما تركناه في المرّة الماضية، نراه يدخن، وينفث
الدخان نحونا إلى الأسفل، وفي يده الأخرى، المَحْرُمة العتيدة، التي لا تفارقه،
يمسح بها فمه، ويده، وأنفه، وجبهته، ويربطها على جبينه. وأحيانا نسمعه يخاطبه:
"أنتِ الوحيدة، التي تغطي عوراتنا".
نسأله:
-كيفك
يا جاسم.
*أحسن
منكم.
نضحك،
ونحن ننتظر لعبته، فيرمي المَحْرُمة نحونا، طالبًا منا إعادتها.
يتقدم
أكثرنا حماسة للعبة، فيتناول المَحْرُمة عن الأرض، ويرميها إلى الأعلى، وكما نعلم
ويعلم، فإنّها لا تصله، وكيف يمكن أن تصله، والهواء غير قادر على حملها، والجاذبية
لها بالمرصاد.
بعد
عدة محاولات وتشجيع من قبل جاسم، نعرف بأنّه سيقول ما سيقوله دائمًا:
*هل
أنتم مجانين؟ ليس هكذا تُرمى المَحْرُمة في الهواء، حتى تصلني.
-وكيف
يا جاسم؟
*اربطوها
بصرارة، واقذفوها.
نربط
طرف المَحْرُمة بصرارة، ونرميها نحو جاسم، الذي يتجنب الإمساك بها، حتى يطيل أمد
اللعبة، ولغايات أخرى، فيطلب مثلاً، أن نجرّب ربطها بعدة سجائر، نكون اشتريناها
مسبقًا، ولا نعرف كيف، عندما نفعل ذلك، ونرمي المَحْرُمة، تصل بسجائرها إليه، فيحرّر
السجائر التي تصبح ملكه، ويعيد رمي المَحْرُمة، ولا يهتم كثيرًا بإمساكها مرّة أخرى
عندما نثبت صرارة بطرفها، ونكرر رميها.
عندما
ينهي جاسم، تدخين سجائرنا القليلة، التي اشتريناها من حرّ قروشنا القليلة، يبدي
اهتمامًا من جديد بلعبة المَحْرُمة، وأخيرًا، وبعد جد وهزل، تصبح المَحْرُمة بيده،
ونكون قد زهقنا من جاسم ومحرمته، فنكمل طريقنا إلى بيت لحم، ونحن نسمع كلماته،
تردد خلفنا، عن المَحْرُمة والعورات.