الأربعاء، 18 يونيو 2008
أسبلة القدس تشابه في الفن المعماري والتهميش
تتوسط مدينة القدس المرتفعات الوسطى الفلسطينية، والتي حظيت باهتمام العالم منذ الاف السنين، لاسباب مختلفة، لم تحظ بمصادر طبيعية كانت تحتاجها بشدة، مثل المياه، وهي المعضلة التي كانت تواجه الحضارات التي تعاقبت عليها.
ومنذ العهد الروماني، تم جلب المياه إلى القدس من عيون مياه بعيدة، عبر قنوات ونظام مائي فريد، ظل ترميمه وحمايته والحفاظ عليه، المسالة الأهم لكل الدول التي سيطرت على القدس.
وتكثر في مدينة القدس الان الاسبلة، سواء داخل الحرم القدسي الشريف، وبعضها يعمل حتى الان مثل سبيل الكأس، الذي يتوسط المسافة بين المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وهو مبني دائري مكشوف من الرخام، وبعضها الآخر يقف شاهدا على الأساليب المعمارية التي ميزت من وضع بصماته في هذه المدينة، مثل سبيل قايتباي المملوكي، الذي يعتبر من اجمل الاسبلة المملوكية في بلاد الشام.
ويقول الدكتور إبراهيم الفني المختص بالآثار الفلسطينية "السبيل مبنى متميز في العمارة الإسلامية إذ يشكل معلما معماريا زخرفيا، وفي الوقت ذاته يوفر الماء العذب إلى سكان الأحياء والى زوار المسجد الأقصى".
وعن الأنماط العمرانية للاسبلة في القدس، يقول الفني لمراسلنا "صمم المهندسون والمعماريون هذه الاسبلة، عبر الطرق والشوارع العامة، ويعتبر كل سبيل من هذه الاسبلة وحدة قائمة بذاتها، وأحيانا كانت ترتبط بأنماط معمارية مثل المساجد والمدارس، خصوصا وان المعماريين اهتموا بإقامة الاسبلة على مقربة من المباني الدينية لحاجة المصلين إليها مثل الوضوء والصلاة".
ولكن وظيفة السبيل لم تقتصر أبدا على مسالة الوضوء، فالاسبلة في القدس مثلا انتشرت في أماكن أخرى ذات طابع حيوي تتعلق بحركة الناس اليومية.
وخارج الحرم القدسي توجد ستة اسبلة تتشابه في معمارها، وتتوزع بين شوارع وأزقة البلدة القديمة، تعود كما تظهر النقوش عليها إلى عهد السلطان العثماني سليمان القانوني، بنيت بين عامي 1536-1538م.
وتتشابه هذه الاسبلة بنمطها المعماري، ولكل واحد منها قنطرة مزخرفة، وبرواز حجري، ورغم صغر حجم هذه الاسبلة إلا انه يظهر عليها أساليب معمارية مختلفة، وتحمل كتابة تذكر ببانيها الأول السلطان سليمان القانوني على النحو التالي "أمر بإنشاء هذا السبيل المبارك مولانا السلطان الملك الأعظم والخاقان المكرم مالك رقاب الأمم سلطان الروم والعرب والعجم عز الإسلام والمسلمين ظل الله في العالمين حامي الحرمين الشريفين السلطان سليمان بن السلطان سليم خان خلد الله ملكه وأدام عدله وإحسانه في سنة ثلاث وأربعين وتسعماية".
وهذه الكتابة تظهر على اشهر هذه الاسبلة وهو المعروف باسم سبيل باب السلسة، لوقوعه قبالة أحد الأبواب المؤدية إلى المسجد الأقصى والذي يحمل اسم (باب السلسلة).
وفي ما يمكن وصفه مفارقة صارخة، فان هذا السبيل الذي بناه شخص، اسبغ على نفسه في يوم من الأيام لقب مالك رقاب الأمم، يستخدم من قبل جنود دولة صغيرة جغرافيا تسمى إسرائيل، الذين يتولون مراقبة الداخلين إلى المسجد الأقصى من باب السلسلة، ويحددون من يحق له الدخول للصلاة في أولى القبلتين.
وعلى بعد أمتار منه يقع مقر لحرس الحدود الإسرائيلي، الذي استولى على المدرسة التنكزية التي تعود إلى العهد المملوكي، وحولها مركزا له.
وكثيرا ما شهد هذا المكان مواجهات بين الفلسطينيين الغاضبين، وجنود الاحتلال الإسرائيلي، خلال السنوات الأربعين الماضية من الاحتلال.
وهذه الصورة للسبيل الان تناقض تلك التي شهدت ما يمكن تسميتها عصره الذهبي، كما تصورها المؤرخون والاثاريون ومنهم الإسرائيليون، ففي متحف تاريخ القدس، في مبنى القلعة، وضع الإسرائيليون مجسما لباب السلسلة هذا وأمامه يقف عدد من الشخصيات المتنوعة، وكتب عليه هذا التعليق "السبيل الذي بناه سليمان العظيم في القرن السادس عشر في أحد مداخل الحرم: باب السلسلة، وبواجهته مجموعة شخصيات تميز القدس في القرن التاسع عشر"، ومن هذه الشخصيات: جندي تركي، وخوري يوناني أرثوذكسي، وفلاح فلسطيني، ويهودي شرقي، وزائر أوروبي.
ورغم أن سبيل باب السلسلة عثماني التأسيس والمنشا، ويعتبر من المآثر العثمانية في القدس، إلا انه يحمل لمسات فنية موروثة من العهد الصليبي في القدس.
ويقول الفني "البرواز الخارجي على هذا السبيل، عبر انحناء القوس هو مدلول عن فن النقش الذي ادخله الصليبيون إلى القدس، ويمكن القول أن هذا قد نقل من جماليات إحدى الكنائس في القدس، التاجات التي كانت قائمة على طرفي الدعامات هي من نمط عرف في فترة القرن الثاني عشر بالقدس".
ويضيف الفني "يمكن الإشارة إلى أن التغيرات التي طرأت على هذا السبيل منذ إنشائه قليلة، ومنها الدعامات التي بنيت، واعتقد أن هذا قد تم لابراز تلك الكتابة الموجودة على هذا السبيل".
وكان هذا السبيل مثل الاسبلة الأخرى في البلدة لقديمة، تصله المياه عبر القنوات العظيمة من برك سليمان التي تصب فيها الينابيع القريبة من بيت لحم، وكانت هذه المياه تصل إلى منطقة المسجد الأقصى، وقسم منه كان يزود بناية التنكزية المملوكية، التي تحولت الان إلى ثكنة عسكرية إسرائيلية.
ومن بين الاسبلة التي بناها السلطان سليمان القانوني، سبيل شارع الواد، الذي تعرض هذا الشارع للتدمير منذ الاحتلال في حزيران (يونيو) 1967، وإزالة كثير من معالمه العربية والإسلامية، لأنه يؤدي إلى ساحة حائط البراق (المبكى)، وهذا السبيل مهمل الان بشكل كبير، وتحول إلى ما يشبه مكب للنفايات.
ويقع هذا السبيل قرب حمام مملوكي اسمه حمام العين، استولت عليه مؤسسات يهودية، وعملت على تحويله إلى كنيس في بداية عام 2007.
ويبعد الحمام نحو خمسين مترا عن المسجد الأقصى، وبمحاذاة الباب الشمالي المؤدي إلى حائط البراق، وبقي من هذا الحمام الأثرى، منشاة مجاورة تدعى (اميم حمام العين) والاميم يعني المكان الذي تسخن فيه المياه لاستخدامات الحمام، ويتعرض هذا الاميم، وهو مبنى تاريخي تمتد جذوره إلى العهد المملوكي لاستهداف، مما جعل مركز دراسات القدس، الذي يتخذ من مبنى اثري قديم يدعى خان تنكز مقرا له، لإطلاق حملة لإنقاذ الاميم الذي يقع مدخله الشرقي داخل الخان الذي بقي شاهدا على ازدهار القدس المملوكية.
وهذا الاميم ملاصق لسبيل شارع الواد الذي خدم في سنوات مغرقة في القدم، الحجاج والمسافرين والأدباء والعلماء والرحالة والمرابطين بجوار الحرم القدسي الشريف، وكان على الأرجح هو من يمد اميم حمام العين بالمياه.
وفي إصدار يحذر من المخاطر التي تواجه الاميم والسبيل أشار مركز دراسات القدس "يقع هذا المكون الفريد في عمق الحي الإسلامي الذي تعمد السلطات الإسرائيلية على تفريغه من مكوناته الحضارية الإنسانية العربية الإسلامية واستبدال معالمه الحضارية بمعطيات ادعائية لهيكل تراءى لهم في العهد القديم".
ورأى المركز بان الاميم هذا المبنى التاريخي الذي تمتد جذوره للعهد المملوكي يتعرض كما هو حال الكثير من المباني لمصادرة "وجوديته القريبة من حائط البراق والحرم القدسي الشريف وإلحاقه بالزحف الاستيطاني المستمر في الحي لالتهام المزيد من المباني والعقارات".
ورغم كل هذه السنوات فما يزال سبيل شارع الواد، المهمل والمهدد مثل الحمام والاميم، يحمل تلك الألقاب التي اسبغها القانوني على نفسه، وهو ما يظهر من النقش الذي ما زال يحمله وينص "أمر بإقامة هذا السبيل مولانا السلطان الملك المعظم الملك العادل منصف الشعب سلطان العجم والترك والعرب السلطان سليمان بن السلطان سليم خان".
ويعود تاريخ البناء إلى عام 1537م، وتوجد بصمات من المعمار الصليبي على هذا السبيل، مما يشير إلى استفادة مهندسي سليمان القانوني من الأنماط المعمارية التي سبقتهم، وكما يقول الفني "المواد والأنماط الحجرية التي استخدمت في هذا البناء هي من الفن الصليبي، القوس الرئيسي اخذ من فتحة قوس لشباك أو باب، والملاحظ أنها نقلت من موقع لم نعرف مكانه، لكن يظهر بوضوح النمط الصليبي في هذا البناء".
وتوجد اسبلة أخرى مهملة في شوارع القدس القديمة، يتخذها الباعة المتجولون، عناوينا لهم يقفون فيها لبيع بضائعهم، مستفيدين، من مواقع هذه الاسبلة الاستراتيجية في جغرافية أسواق القدس، التي تبدو حزينة جدا الان بعد 41 عاما من الاحتلال.
http://www.elaph.com/ElaphWeb/Reports/2008/6/340914.htm
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق