عندما دخل الجنود الإسرائيليون مدينة رام الله، في حزيران (يونيو) 1967، استخفهم الفرح بمنازل هذه المدينة المغطاة بالقرميد الأحمر، وكان ذلك إيذانا بدخول المدينة، التي تعبد 15 كلم القدس، إحدى اسوأ حقبها، فبنى المحتلون المستوطنات حولها، وحاصروها بالحواجز والجدران، وسالت دماء رجال ونساء في شوارعها وازقتها. وحال الاحتلال الإسرائيلي دون استمرار هذه المدينة بالتطور، وحول مقر المبنى الحكومي المتوارث منذ عهد الانتداب البريطاني إلى سجن، وتعرض رئيس بلديتها الراحل كريم خلف إلى محاولة اغتيال، وبدا وكأن الزمن يتراجع في المدينة التي اعتبرت مصيف فلسطين.
وفي ظروف متغيرة، بعد اتفاق أوسلو، تحول السجن إلى مقر لرئاسة السلطة الفلسطينية، وشهدت المدينة طفرة عمرانية كبيرة، لوجود مؤسسات السلطة المركزية فيها، وان كانت فقدت القها الرومانسي القديم كمدينة القرميد الأحمر. وأطلقت بلدية رام الله، التي تقودها لاول مرة، ومنذ 100 مائة على تأسيسها امرأة هي جانيت ميخائيل، مشروعا ضخما لإحياء مئوية بلدية المدينة، التي يطلق عليها عروس فلسطين.
ورغم أن الرقم مائة، يعتبر مغريا للاحتفال، إلا أن ظهور رام الله الحديثة على مسرح الأحداث، هو اسبق من قرن، ويعود لحكاية تأخذ منحى فلكلوريا دراميا، مثل كل الحكايات التي تختزنها ذاكرة عروس فلسطين.
وتبدا الحكاية، بعيدا هناك في مدينة الكرك الأردنية، عندما قرر راشد الحدادين، في منتصف القرن السادس عشر، الجلاء، بسبب تعقيدات العادات البدوية المتأصلة، وفي هذا المجال يحكى الكثير عن سبب قرار الحدادين، الذي لم يكن ليخطر بباله كم سيكون تاريخيا.
ومما يروى، أن راشد الحدادين رزق بطفلة، وخلال تلقيه التهاني بها، تلقى مباركة من أحد شيوخ الكرك المسلمين فرد عليه الحدادين قائلا، وعلى عادة البدو، بأنها ستكون لهذا الشيخ، الذي يبدو انه اخذ الأمر على محمل الجد، وعندما كبرت الطفلة، عاد لراشد يطالبه بالإيفاء بوعده، فما كان من هذا إلا شد الرحال، والانطلاق نحو غرب نهر الأردن، مثلما كانت تفعل العشائر الأردنية كثيرا، عندما تقع المعارك بينها، والتي كانت تتسم بالعنف الشديد، وسقوط القتلى، وارتكاب المذابح.
وعندما تعب الحدادين حط رحاله في خربة رام لله المهجورة، المجاورة لمدينة البيره، وكان المكان الذي يحوي آثارا رومانية وكهوفا تعود لما قبل التاريخ، مثاليا اكثر بكثير مما توقع، لممارسته مهنته وهي الحدادة، لوجود الأشجار الحرجية.
وعندما اشترى الحدادين المكان، من أصحابها عائلة (الغزاونة) من أهالي البيرة، لم يكن يدري انه كان يؤسس المدينة التي سيكون لها دور هام في تاريخ فلسطين المعاصر.
ولكن راشد الحدادين، الذي نجح في موطنه الجديد، لم يفارقه الحنين إلى الكرك، وقرر العودة إليها، بعد وفاة الشيخ المتسبب في رحيله، تاركا خلفه أبنائه لخمسة، الذين أسسوا عائلات رام الله، وفي مركز مدينة رام الله، المسمى المنارة، تنتصب الان خمسة تماثيل من الأسود تمثل هؤلاء وهم: صبرة، وإبراهيم، وجريس، وشقير، وحسان، وهم أجداد العائلات المعروفة بأسماء: آل يوسف، وال عواد، وال الشقرة، وال الجغب، وال عزوز.
وتم وضع هذه التماثيل من جديد، قبل سنوات، بعد ان تم وضعها في مخازن البلدية في بداية الاحتلال الاسرائيلي. وبدأت رام الله، تأخذ مكانتها على الخريطة الفلسطينية، بعد طول غياب قسري، رغم قدمها وتشهد على ذلك مثلا خربة الردانا الأثرية، والقبور الرومانية، والآثار الصليبية.
وفي عام 1807، بنيت في المدينة كنيسة الروم الأرثوذكس، وفي عام 1869 افتتحت مدرسة الفرندز للبنات، وتحولت في عام 1902 إلى مقاطعة عثمانية، تضم ثلاثين بلدة محيطة بها، وفي عام 1908، تحولت رام الله إلى مدينة، وتأسيس مجلسها البلدي برئاسة الياس عودة.
وبعد مائة عام تقرر بلدية رام الله الاحتفال بتأسيسها، بعد أن أصبحت مساحتها الان 19 ألف دونما، وعدد سكانها 35 ألف نسمة، ويتبع لها 80 بلدة وقرية، ولتكون مع مدينتها التوأم البيره مركز محافظة يبلغ عدد سكانها نحو 279 ألف نسمة.
وتقول رئيسة بلدية رام الله عن مشروع هذه الاحتفالية التي سيشارك في إطلاقها الشاعر الفلسطيني محمود درويش "بدا كحلم، فغدا فكرة، وتبلور مشروعا متكاملا، وها نحن نجتهد الان كي يصبح واقعا وحقيقة".
وعبر محمود عباس (أبو مازن)، رئيس السلطة الفلسطينية الذي يقع مقره في رام الله، عن دعمه للمشروع قائلا في رسالة وجهها لرئيسة بلدية المدينة "نحن نشعر بالفخر والاعتزاز لجهودكم التي تهدف إلى تحويل هذه المناسبة إلى خطة عملية لبناء وتطوير المدينة، أملا أن تتبوا مدينة رام الله، مكانة خاصة، حيث أنها تحتضن حاليا المؤسسات الرئيسية للسلطة الوطنية الفلسطينية، بالإضافة إلى مكاتب الممثلات الأجنبية لسلطتنا، والمؤسسات الأجنبية والدولية، ومؤسسات القطاع الخاص وابرز المؤسسات الأهلية".
ووضعت البلدية خطة لمدة ثلاث سنوات، ضمن مشروع الاحتفالية، تستهدف النهوض بالمدينة، وتشمل الخطة عدة محاور منها: تطوير البنية التحتية، وحماية الموروث الثقافي، وتعزيز الثقافة والعلوم، وتعزيز التعددية والمشاركة الاجتماعية، وتطوير مؤسسي شامل في بنية بلدية رام الله، وتشجيع السياحة والاستثمار. وفي التفاصيل، فان الخطة تشمل عشرات المشاريع، في محاولة للاستفادة القصوى من مشروع الاحتفالية، والدعم الذي سيقدم من المانحين.
ومن بين هذه المشاريع ما يتعلق بحماية الموروث الثقافي للمدينة، والتي ستشمل ترميم البلدة القديمة، بكلفة تصل إلى 6 ملايين دولار، ومشروع للحفاظ على المباني التاريخية، ومشروع ترميم عيون المياه التاريخية في المدينة، وغيرها، ومما يلفت الانتباه هو سعي البلدية لإقامة نصب تذكاري لمؤسس مدينة رام الله راشد الحدادين وذلك "وفاء له، ولتعريف الأجيال الشابة والجديدة به، وبفضله في تأسيس المدينة".
وإذا كان الحدادين هو مؤسس المدينة وكاتب أولى حكايتها، في نهضتها الجديدة، إلا انه ليس الوحيد الذي تتداوله حكايات رام الله، مدينة الحكايات، والكفاح، والصيف الفلسطيني المبهج.
وتشهد المدينة الان استعدادت لإطلاق الحفل لمركزي لمئوية المدينة، في منتصف شهر تموز (يوليو)، تحت عنوان (وين ع رام الله) وهو مقطع من أغنية فلكلورية فلسطينية وأردنية، تردد صدى ملحمة المدينة التي تحاول أن تبني وتكافح الاحتلال، والاستيطان، والفساد، والثقافات المشوهة الدخيلة.
http://www.elaph.com/ElaphWeb/Entertainment/2008/6/344156.htm
مشكور على المعلومات القيمة..نتمنى منكم المواصلة .
ردحذفلكم مني كل الشكر والتقدير.
ابن فلسطين