قبل
ذلك بأربع سنوات، عندما كان عمري 13 عامًا، كنت معتقلاً في معسكر الجيش الإسرائيلي
في بيت لحم، واسمه (البَصَّة)، ومعي عدد من قادة الطلبة في جامعة بيت لحم. كان أبو
الفهد، الضابط العراقي اليهوديّ الضخم، ضخم الجثة والرأس والشارب والأطراف، يحتضن
مجنّدة صغيرة تكاد تذوب بين ذراعيه، يَمُرّ مِن أمام غرفتنا وينظر إلينا ويضحك.
كنت أدرك أنه يستفزنا، ولكني لم أدرك حجم الاستفزاز الذي يمكن أن يشكله تصرفه
لزملائي المعتقلين من الجامعة. وفي أجواء الاستفزاز هذه، وأبو الفهد يمرّ من
أمامنا مقبلا ويعود مقبلا، بدت السخرية تسري في أجسادنا، وفوجئنا بوليد يقول بصوت
خفيض هامس:
-ادخلها
إلينا.. شوية!
ولا
نعرف كيف سمع ما قاله. ترك أبو الفهد عصفورته الصغيرة تسرّح شعرها بيديها، ونادى
على جنديّ يحمل المفاتيح، وطلب منه فتح الغرفة، وطلب منا الوقوف جميعا ووجوهنا إلى
الحائط، وأراد أن يعرف من هو صاحب الجملة. حاول بعضنا أن يقول إنها لم تصدر مِن
غرفتنا، ولكن الضابط الذي أمضى سنوات عمره الأولى في موطن أكراد العراق قال وهو
يفتل شاربه الضخم:
-عيب
على هالشارب إن لم أُلقنكم درسا إذا لم تقولوا من هو قليل الحياء الذي بينكم.
وبالطبع
رفضنا جميعا الإشارة إلى وليد، واقتادنا خارج الغرفة، وعندما عدنا لم نستطع النوم
لعدة ليال، بسبب ما تعرّضنا له من ضرب.
وعندما
أصبح أبو الفهد يمرّ وهو يهصر المجنّدات تحت ذراعيه، يضع أقرب واحد فينا يده على
فم وليد، كي لا يتكلم، ولكننا جميعا نطلق النكات التي تطفو على شفاهنا فجأة، ولا
نعرف من أين أتت. أما أبو الفهد، فلم يعد يسمعنا، أو لم يرد ذلك، مدفوعا على
الأرجح بغرور شرقيّ تدغدغه مراقبتنا لما يفعله مع العصفورة اليهودية الغربية
الشقراء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق