القدس.. من ياقوت الحموي إلى يوسف زيدان
فيما يلي مقال كتبته عن رواية (عزازيل) البديعة للكاتب يوسف زيدان:
أثارت رواية (عزازيل)، وما تزال، نقاشات حادة، واهتماما تستحقه، وحظيت بندوات، ومقالات عرضت لها في الصحف ومواقع الانترنت، ورشحت للقائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية.
وتعيد هذه الرواية، التي كتبها روائي غير محترف، إن جاز التعبير، عرف بتحقيقاته ومؤلفاته العلمية الهامة، هو الدكتور يوسف زيدان، الاعتبار إلى الرواية العربية، بعد خسوف طال أكثر مما ينبغي.
وتسترجع الرواية، فترة انتشار المسيحية، في العصر البيزنطي، واضطهاد الوثنيين، من قبل أتباع الديانة الجديدة للإمبراطورية، والصراعات بين رجال الدين المسيحيين، وهو موضوع إن كان طرح، من قبل باحثين غربيين، فانه بقي من المحظورات التي لا يقدم عليها الباحثون العرب.
ويهدف هذا المقال، إلى إبداء ملاحظات، على ما جاء في الرواية، فيما يخص علاقة بطلها بمدينة القدس، التي كانت إحدى المحطات التي مكث فيها، والتقى خلالها برجل الدين الشهير نسطور، دون التطرق لمضمون الرواية.
ايلياء
تدور أحداث الرواية في القرن الخامس الميلادي (424م)، أي في العصر البيزنطي (يطلق عليه الكاتب: الروماني)، ويجيء على لسان بطل الرواية (هيبا) عن القدس بأنه يطلق عليها عدة أسماء من بينها يذكر اسم (ايلياء)، وهذا الاسم أطلق لاحقا على المدينة من قبل العرب، وهو تحريف لاسمها (ايليا كابتولينا) الذي أطلقه عليها الإمبراطور الروماني هادريان، الذي هدم القدس، وأعاد بنائها، لمناسبة مرور 21 عاما على اعتلائه سدة الحكم (135م)، وما تزال معالم هذه المدينة موجودة، وتكشف الحفريات عن الكثير منها، وأبرزها الان (باب العمود) نسبة للعمود الذي كان يحمل تمثال هادريان، وهو اسفل باب العمود العثماني الحالي، وشارع الكاردو الروماني.
ويبدو أن العرب وجدوا إشكالية في فهم هذا الاسم (إيليا مشتقة من ايليانوس اسم عائلة هدريان وأما كابيتولينا فمن اسم الإله الروماني جوبيتر كابيتولينوس)، فعربوه إلى (ايلياء) كما ظهر في الكتابات الإسلامية المبكرة عن الفتح العمري للمدينة (636م)، وفيما يطلق عليه العهدة العمرية، وتظهر هذه الإشكالية أكثر عند ياقوت الحموي الذي يفسر الاسم، وكأنه (بيت ايل) قائلا "ايلياء اسم بيت المقدس. قيل معناه بيت الله"..!، وهو ما يمكن وصفه بالفضيحة العلمية، وهي ليست الوحيدة لدى من وصف بأنه أعظم بلداني المسلمين.
ولأسباب لا يمكن تحديدها، لم يتغير حتى الان، تعامل جل الباحثين العرب والمسلمين مع القدس، عن التبسيط الياقوتي المخل، ومثله الأبرز في رواية باحث قدير مثل يوسف زيدان.
ومن المستبعد أن تكون القدس، حملت اسم (ايلياء) في الزمن الذي تدور فيه الرواية، فما وصلنا من نصوص حول هذا الاسم يعود إلى ما بعد 200 سنة من وقوع أحداث الرواية.
مغارة خريطون
تتحدث الرواية عن القديس خريطون، احد أشهر الرهبان في صحراء البحر الميت، في العصر البيزنطي، وعن اعتصامه في "مغارته الموحشة قرب البحر الميت"، وكيف أن بطل الرواية، جلس أياما خارج المغارة حتى خرج له خريطون ليحدثه.
هناك الكثير مما يمكن الحديث فيه عن خريطون هذا وعن دوره في حياة الرهبنة، وبنائه لعدة مؤسسات رهبانية، أولها في منطقة عين فارة، قبل استقراره الأخير فيما يطلق عليه الان مغارة خريطون، وهي احد المغر العظيمة في فلسطين، وغير مكتشفة بشكل كامل، وتخضع الان لسيطرة الاحتلال والمستوطنين.
ولكن لا بد من الإشارة إلى أن الصورة التي تقدمها الرواية لخريطون المعتكف وحيدا عن العالم، افترض أنها بعيدة تماما عن الواقع، فخريطون في مكانه هذا بنى مؤسسة ضخمة وديرا كبيرا، ما زال احد أبراجه قائما ويطلق عليه محليا اسم (قصر ودادة)، وكشفت الحفريات الأثرية الإسرائيلية في المكان عن عشرات الصوامع، والآبار، والبرك، وأرضيات الفسيفساء، والقنوات، وغيرها من مكونات الدير، الذي يعتقد انه يشبه دير أخر ما زال قائما هو دير مار سابا، وفي هذين الديرين (دير خريطون ودير مار سابا) وضعت الترجمات الأولى للكتاب المقدس للغة العربية، في اثناء الحكم الاموي.
أسوار القيامة
تقع الرواية في خطا فادح، عندما تصر على أن كنيسة القيامة محاطة بالأسوار، التي يتم ذكرها مرارا وتكرارا في الرواية، وكيف أثرت في مشاعر بطل الرواية وهو يراها من بعيد، ويشير الراوي أكثر من مرة إلى بعدها عن صخب الناس في المدينة، وسير (هيبا) بمحاذاة أسوارها، بشكل يبدو امرا يوميا في أثناء مكوثه في القدس.
ويتوفر لنا تخطيط لمدينة القدس، في العصر البيزنطي، من خلال خارطة مادبا الفسيفسائية، تظهر فيه كنيسة القيامة وهي داخل أسوار القدس، كما هو حالها الان، دون أن يحيط بها أسوار، لأنها ببساطة لم تكن بحاجة لها، مع توسع المدينة في العصر البيزنطي، لتشمل الأسوار منطقة واسعة غرب المدينة بما فيها قلعة باب الخليل، مما جعل موقع كنيسة القيامة، الذي كان معبدا لافروديت ايان هادريان، في وسط المدينة وصخب الناس.
يتحدث هيبة عن حسن حظه في إقامته داخل أسوار كنيسة القيامة قائلا "لو أقمت في المدينة لقتلني صخب الناس" والواقع انه كان وسط الناس وصخبهم، وليس بعيدا عن أسواقهم، فبلدة القدس داخل الأسوار مساحتها كيلو متر مربع، تحوي المساجد والكنائس، والشوارع، والمباني، والأقواس، والاسبلة، وكل شيء.
فلسطين العربية
يقول بطل الرواية وهو في القدس عام 424م عن الأناجيل بأنها "لم تترجم فيما نعلم إلى لغة العرب، الذين صرنا اليوم نعيش بينهم ونتكلم لغتهم"، وهذه إشارة غريبة، ولا نعرف عن كثافة عربية عاشت في القدس في تلك الفترة، فرغم تعرب فلسطين، سياسيا (وليس لغويا) مع الفتح العمري بعد هذا التاريخ بمئتي عام (637م)، وتم ذلك في عملية تدريجية طويلة ومعقدة، مجبولة بكثير من الدماء، إلا أن اللغة العربية لم تسد، وتجاورت مع الآرامية، حتى الغزوات الصليبية، عندما بدأ السكان المحليون استخدام العربية بتوسع وبشكل مقصود، كنوع من مقاومة الغزو الإفرنجي.
ولا اعرف إذا كان من الضروري، الإشارة إلى مدى العداء للعرب الذي ساد مدينة القدس عشية الفتح العمري، وهو ما يمكن تحسسه من خطب بطريرك القديس صفرونيوس، وهو يستشعر خطر سقوط المدينة بيد العرب، وطبعا يتجاهل المؤرخون العرب، هذه الأجواء وموقف صفرونيوس، وكأن مفاصل التاريخ، تسطر بالنوايا والرغبات الطيبة، وليس بانتصار إرادات، وهزيمة أخرى، ويسجل هؤلاء بان عمل صفرونيوس الأكبر الذي ادخله التاريخ تسليمه مدينة القدس التي خضعت لحصار قاس، لعمر بن الخطاب، ولولا الحياء لجعلوا البطريرك البيزنطي المهزوم والمنكسر، مسلما..!
والاستسهال في كتابة التاريخ، تظهر أيضا في الصورة التي تقدم للفاتح الكبير، الذي كان يقاتل اكبر إمبراطوريتين في عصره، عندما جاء لتسلم مفاتيح القدس المحاصرة والمنهكة، وهو راكبا جملا يتناوب عليه مع خادمه، وكأن لا أخطار تتربص به في الطريق الطويلة من الجزيرة العربية إلى القدس، وكأن خليفة المسلمين الثاني الذي يضع الأسس لإمبراطورية عربية ناشئة، سريعة التمدد، لا يحتاج إلى مستشارين، وسكرتارية، وعسس وجنود، يتقدمون عليه لكشف الطريق، ولعمال بريد، ليتواصل مع عاصمته التي تركها، ومع جيوشه المنتشرة في بلاد الشام.