أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الثلاثاء، 28 أكتوبر 2025

حكي بيروتي!


 


عندما اقترب منا، لم تبدو عليه حماسة سائق مُرحب، ولكن ذلك لم يهمني، فخلال الرحلة من عمَّان إلى بيروت، أخذت كفايتي من الحُسن اللبنانيِّ. منذ جلوسي بجانبها. لا أعرف السبب الَّذي جعلها تعتقد أنَّني بحاجة لمن يؤنس قعدتي، ويساعدني حتى في ازدراد ما لا يُزدرد من طعام. فقدمت، باسمة، دون طلب منها، الإرشادات في كيفية استخدام أدوات الطعام الجوية الكروموسومية. وعندما سألتني إذا كانت هذه المرَّة الأولى التي أطير فيها. لم أشأ إضعاف نشوة انتصارها، فقلت: على ما يبدو ستكون الأخيرة. أخبرتني، وهي تتصرَّف كأخت كبيرة، تظهرها طيبتها بأقل بكثير من عمرها الحقيقي، من باب تبديد وحشتي أنَّ جَدتها في البقاع فلسطينيَّة، ما أثار اهتمامي فعلًا، ولكن ما أبأسني عندما سألتني عن طائفتي. دُهشت وصُدمت، مجيبا: اسمحيلي. فدُهشت ولم تطلب تفسيرًا! آخر ما ترغب به طائفة جديدة في بلد الطوائف.

الحُسن اللبنانيِّ؛ أدهشني في المطار مقارنة مع التجهم الأردني الأبدي، اختبرنا صبرهم وهم يضعون التأشيرة على ورقة خارجيَّة منفصلة، لأنَّهم، حال النظام الممانع، لا يعترفون بالجواز الفلسطينيِّ. قال لنا الموظَّف المبتسم بلهجة أبوية: ليحتفظ كل منكم بورقته فهي جواز سفره. خيِّل لي أنَّني سمعت كلمة رقبته، بدلًا من ورقته، فتحسَّست الأولى، وخبأت الثانية، ولدي احساس أنَّ الرقبة والورقة ستضيعان في المدينة التي سأدخلها بعد قليل، وقد أظلم يومها.

حاول السائق الكهل الذي بدا لي مترنحًا، أخذ حقائبنا، لوضعها في السيَّارة، لكنَّني رفضت بأباء فأنا لا أقبل لأحد أن يحمل عني حقيبتي. تركنا ودلف إلى مقعد السائق. بعد دقيقة صمت انتبهنا إلى أنَّ أم كلثوم تسلو، سلو قلبي في ليل بيروت:

وَعَلَّمَنا بِناءَ المَجدِ حَتّى/ أَخَذنا إِمرَةَ الأَرضِ اِغتِصابا

استرخيت على صوت الست، إلَّا أنَّ السائق وقد بدأ أكثر ترنحًا خلف مقود السيارة يقول بصوت ناعم ولكنه حاسم ودال كسيف حاد، لا تظهر حدته: هذا نشيد أهل السُّنة!

أردت أن أضحك، لكنَّ نبرته، جعلتني أنظر الى صديقيّ، ومن حسن تدبيرنا أننا جلسنا معا ولم يجلس أي منا بجانب السائق. تساءلنا بلغة العيون: هل هو يمدح /م يتبرم؟ هل هو سني ينشد نشيدها، أم شيعي متوعِّد. وإذا أردنا النجاة من عمليَّة خطف محتملة هل نعلن شيعيتنا أو سُنيتنا، ونحن أصلًا لا نعرف لأي طائفة تُعقل خيولنا.

أطالت أم كلثوم، وسلت، وكأنَّه ليس في رائعة أمير الشعراء سوى نشيد أهل السُّنة والجماعة. أمَّا السائق الذي صمت على غش، فإنَّ عينيه لا تكفَّان عن النظر في المرأة لسبرنا. يبدو أنَّه اقتنع أننا لا نعرف بالضبط إلى أي طائفة ناجية يجب أن ننتمي، فرثا لنا.

عندما نزلنا أمام الفندق، وكأنَّنا وصلنا شاطىء أمان،. تقدمت من السائق المترجل متهيبًا وقد تخلى عن خطة اختطافنا لطمأنته: أخوك المعتزلي، فتهيب اضفت للطمأنة جاحظي معتزلي. فنط في السيارة هاربًا وكأنَّ الحياة دبَّت فيه ولم يعد مترنحا. قلت لرفيقيّ السفر اذا كان لا بد من الفرز، حسب لغة السجون، فإنَّني لن أختار السُّنة فكيف بالسُّنة والجماعة مرَّة واحدة، لن أحشر مع ابن باز أو الشعراوي، فلنختار الشيعة، طائفةً وطريقةً، وعشقًا. وافقا ممتدحان حكمتي.

رمينا الحقائب في الفندق، وقررنا رمي أنفسنا في شوارع هذه المدينة التي تنشد فيها أم كلثوم، نشيدًا طائفيًا، لكَّنه لا ينافس بقوته صوت الزوامير. بيروت أيضًا مدينة الشبق الزواميري.

مشينا في منتصف ليل بيروت المخيف، لكن بدون خوف فقد عرفنا أخيرًا إلى أي طائفة تتسامق لها أعناقنا، حبًا وارادة. عند صخرة الروشة تعرفنا على المصوِّر الساهر يلقِّط رزقه بكاميرته، في عصر الكاميرات الرقميَّة، كأنَّه آت من السبعينيَّات، عرفنا أنَّه من عائلة المطرب السوريِّ فهد بلان، فهو من غير طائفتنا، ولكن الأمر تغيَّر عندما فاجأنا أنَّه يقطن في الضاحية، التي اعتقدنا أنها غيتو شيعي. تهللنا. قلت له أرأيت كيف أننا نحتضن في مدينة الغرباء هذه كل غريب شريف، يأكل مما يُصور. أرجوك صورنا وخذ نقدنا، واترك الصور ذكرى لك. استخدمنا كاميرات في تصوير أنفسنا.

عدنا إلى الفندق بسيَّارة سائق سوري، في وقت عنصرية ضد السوريِّين، أخبرنا أنَّ هذه ليست مدينة الطوائف، وإنما مدينة المال. روى علاقته الوثيقة مع بارات زحلة ومطاعمها، لأنَّه يجلب لها الزبائن فتتراجع الطائفية أمام المال. انبهرت بكفاحه من أجل عائلته. قلت له: نحن من سوريا الجنوبيَّة.

في اليوم التالي في مؤتمر الهيئة الصحية للأمم المتحدة. افتتحه الدكتور الباكستاني بحزن وشجن كربلائي لأنَّ اليوم يصادف ذكرى استشهاد الحسين. وأطال وشعرت أنَّه لم يعد لدينا إلَّا البكاء عندما رأيت دموع محبوسة في أعين عاملات الفندق ذوات التنانير القصيرة. استغربت هل تسمح قوانين المنظمة الدولية بمثل هذا الخروج الطائفي. قلت لرفيقيّ: في ذكرى الحسين، يصبح لون ماء عين سلوان أحمر، مثل عيوننا المتضورة للنوم. قررنا الخروج من الشيعيَّة. بدا مغريًا أن نصبح رومًا بعد تعرفي على الدكتورة خوري، العشرينية في سبعينيتها، والتي ألهمني لقائي بها سلسلة مرئيات عن مسيحيي شمال الضفة الغربيَّة المجهولين، لصالح مركز الإعلام المسيحي بالقدس بدعم من عيسى بشارة.

حسمت الأمر، لن أكون روميًا، يكفي ثقل أصدقائي الروم الذين سأعود إليهم ومنهم العم يعقوب. عندما عاد صديقي من لندن وقال لي أصبحت مسيحيًا وأريد كنيسة أُصلي بها. ضربت على صدري واتصلت بالعم يعقوب، تبرم معتذرًا: صاحبك بروتستانت لا ترسله إلينا. سنضحك على ذلك لاحقًا كثيرًا.

اليوم التالي كان يومًا مشرقًا ومختلفًا وطويلًا. وقصته طويلة. بدأ قبل خروجنا من الفندق بمقال نشرته جريدة الأخبار عن مجانين بيت لحم. المجانين للمجانين أنسباء. أضحت بيروت، بيروتي.

مشينا إلى مثوى شهداء فلسطين، أسر لي الأستاذ ناصر الدين النشاشيبي، أن غادة لم تحبه هو فقط ولكن أيضًا أحبت كمال ناصر، ومع غسَّان أصبحوا ثلاثة فلسطينيين عاشوا الحلم. أزلنا الأوساخ عن قبري غسَّان وكمال المتجاورين، ليس صرعى غادة بيروت الدمشقية، ولكن قُوَّادة الشرق الأوسط. حييت ماجد أبو شرار في مستقره، الذي لم أعرف إن كانت غادة أحبته، مثلما لا أعرف من اغتاله.

في اليوم الأخير قرَّر أحدنا التريث، سأل من باب الاطمئنان، ماذا يفعل إذا طارده طائفيون؟ اقترحت أن يهرب إلى الجبل، سأل: عند الدروز؟ أجبت: لا تقل لهم أنك تعرف مجرم حرب اسمه وليد بك، أعلن في لقاء تلفزيوني، مبررًا مجزرته ضد (المرابطون) في الحرب الأهلية: في النهاية هم من السُّنة. يبدو أنَّه استفزه نشيدهم.

سألنا سائق آخر غير سائق الوصول عن الطائفة، صرخنا به: خلص اللعبة انتهت. أوصلنا المطار صامتًا. قال بلطف: بصراحة نحن نسأل عن الطائفة لأن بيننا كلام خاص. قلت له لنا كلامنا ولا نريد كلامكم!

#غسان_كنفاني #كمال_ناصر #ماجد_أبو-شرار #أسامة_العيسة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق