مع "سماء القدس
السابعة" ننتقل إلى مجال أوسع وخطّ سردي أفقي طويل وإلى حكي أقلّ ما يوصف به
طابعُه الموسوعيّ الشموليّ، القدس محورُه، منبعه ومصبّه، ومضمارُ الصراع فيه
والعيش وفي مساحاته الجغرافية تحتاج إلى خرائط بيانية ومعلومات وشروح مصاحبة كي
تُرى بالوضوح الكافي ويشاهِد يعرف قارئ الألفية الثالثة فلسطينيًّا وعربيًّا
المجال الهائل الذي اختاره أسامة العيسة لنا بعد وعلى غرار روايته السابقة:"
مجانين بيت لحم" (نوفل 2014). من تتبع تاريخ بيت لحم ومخيّمها ومشفاها عبر
حقبة طويلة بمقاطع طولية وتفاصيل عرضية، ينتقل إلى القدس، وهذه مدينةُ العراقة
محفلُ الأديان وقِبلةُ الفقهاء والرهبان والمؤمنين، حيث المسجد الأقصى أولى
القِبلتين وثالث الحرمين وإليه تمّ الإسراء من النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة
الإسراء والمعراج، وحيث كنيسة القيامة. فلو أضفت إلى هذه الحمولة الدينية المقدسة
السجلَّ السياسيّ لهذه الحاضرة بالقوى التي تناوبت على حكمها، والثقافات الناشئة
والتقاليد السارية فيها عبر قرون والأعراق والديانات التي عاشت فيها بين التعايش
والاحتراب، ستجد نفسك أمام تاريخ ملحمي يبلغ أوجَه في أوائل القرن الماضي امتدادًا
إلى النكبة مع استيلاء الاحتلال الإسرائيلي على القسم الغربي من المدينة، ثم بعد
هزيمة 1967 تدخل في طور جديد يعاني فيه الفلسطينيون الباقون فيها الأمرّين، وما
زالوا بالرغم صامدين.
وإنّه لرهان خطير
ارتاده العيسة للإحاطة بهذا التاريخ بجميع مكوناته والأطراف المشتركة، ما احتاج
منه إلى قرابة سبعمائة صفحة من القطع المتوسط، مجزأةٍ إلى ثلاثة أسفار بعناوين
مميزة: "سفر للحياة"؛ "سفر للحزن والحياة"؛ "سفر للبقاء
والحزن والحياة"، أغلبها يسرده هنا أيضًا طفل يرافق أباه منذ البداية في
تنقلاته داخل القدس وهو سائق عربة يروي له مثل مرشد سياحي قصةَ كل ما تقع عليه
عيناه وهم في غدو ورواح أو بأي مناسبة تتاح؛ أماكنُ ومعالمُ وآثارٌ، تشهد على
عراقة المدينة وسكانها الأصليين وما تعرضت له من تعدّيات سلبت بيوتهم وحقوقهم
والتنكيل بهم وهم يقاومون، مرورًا بجميع المراحل المعلومة للنكبة ونتائجها
الكارثية، اقتضابًا نقول من أعماق التاريخ إلى اتفاقيات أوسلو. لا بدّ للقارئ أن
يتساءل كيف يمكن احتواء هذا الزمن بأكمله في رواية، وأي صبر يحتاج لتتبع مئات
التفاصيل جميعُها معلوماتٌ بحثيةٌ دقيقةٌ من ميادين التاريخ والجغرافيا والتقاليد
والأنساب والأنثروبولوجيا والثقافة واللاهوت وكل شاردة وواردة لرسم اللوحة
البانورامية للقدس، مدينةً حيّةً ورمزًا لمجموع فلسطين المحتلة، يمثل اقتفاءُ أثر
تاريخها الكلّي مسعى لاسترجاع هويةٍ ضائعة ومكانٍ محتل وللحفاظ على ذاكرة وطنية
بأداة التذكّر، أي السرد الروائي، الغالب عليه في هذا العمل المظهرُ التوثيقي، فهي
رواية وثائقية أكثر منها تخييلية، وإن توفرت لها ذخيرتها من هذا الجانب بشخصيات
طريفة جدًا، السّبع أبرزها، والأب السائق المقاوم، وخصوصًا الطفل الإبن، إذ يعبُر
أزمنةً متقلبّةً برفقة صديقته لور ومعهما يتوالى شريط القضية الفلسطينية إلى مشارف
القرن الجديد.
لنقل ختامًا، إنّ
روايتيْ ليالي بدر وأسامة العيسة تبرهنان على حيوية الذاكرة المقاوِمة عبْرَ سيرةِ
الذات، وملحميةِ تاريخٍ موضوعي وإنساني موثّق، وهذا بمقتضى روائيةٍ ناضجةٍ وهو
المطلوب.
#أحمد_المديني
#النهار_العربي_والدولي
#سماء_القدس_السابعة
#منشورات_المتوسط
#أسامة_العيسة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق