ظلت الخروبة، التي عرفت هكذا باسم مجرد، بين الناس، علامة على الطريق من بيت لحم إلى القدس، وكأن لا خروبة غيرها على هذه الطريق، ولكنها لم تكن علامة دقيقة للفصل بين أراضي المدينتين المتداخلتين، فأراضي بيت لحم، وبيت جالا، تمتد إلى مسافة أبعد من موقعها، ومع ذلك رسخت مكانتها ودورها، وأضحت عناوين الأمكنة، تعرف على الطريق التاريخية، ما قبل الخروبة وما بعدها.
شكلت الخروبة المعمرة، رمزا على طريق بيت لحم-القدس، الغنية بالرموز، منذ زمن بعيد، فالروائي الراحل جبرا إبراهيم جبرا، يذكر في الجزء الأول من مذكراته التي صدرت باسم البئر الأولى، شجرة الخروب هذه.
يتذكر سفره إلى القدس، صغيرا: "كم كان رائعا عصر ذلك اليوم أن أتجاوز أخيرا قبة راحيل، بلوغا إلى شجرة الخروب الكبيرة على يسار الطريق، تلك الشجرة المستوحدة، المتفجرة في الأرض بين أشجار الزيتون الغبراء، كقبة خضراء فسيحة، وهي التي كثيرا ما آوينا إلى برودة الأفياء تحت أغصانها وأوراقها المتراصة كلما ابتعدنا عن البيت أيام الصيف القائظة بحثا عن أعناب الدوالي. وهي محطتنا الأثيرة في الذهاب إلى دير مار الياس والعودة منه، والدير حتى تلك الساعة أقصى مكان بلغته سيرا على القدم باتجاه القدس".
يضيف: "مررنا بالخروبة الجميلة، ومررنا ببوابة الدير القديم وبئره المهملة، متجهين نحو البقعة التحتا ومنها نحو الطوري. ثم نزلنا إلى مشارف بركة السلطان، وأطلت علينا أسوار المدينة القديمة، ومئذنة النبي داود، وقد غمرها شفق بنفسجي".
تأثرت الخروبة "المستوحدة المتفجرة"، التي نجت من قطع العثمانيين للأشجار، للتحول وقودا للقطارات، مساهمة في المجهود الحربي، ونجت قبلها من حملة إبراهيم باشا، وبعدها من ممارسات الاحتلال البريطاني، بالتغيرات السياسية الجديدة، فبعد احتلال ما تبقى من فلسطين، أضحت المكان المفضل، لجيش الاحتلال، لوضع الحواجز، للتفتيش، والقبض على ما يعتبرهم مطلوبين وهم في طريقهم من بيت لحم إلى القدس، ولم يكن من النادر، أن يوقف مسؤول الشاباك، سيارته، محاولا إخفاءها في ظل الخروبة، ناصبا كمينا لمناضل، أو مجموعة من المناضلين.
تأثرت الخروبة، مع بدء تهويد مقام قبة راحيل، القريب منها، وهي عملية انطلقت بعد الاحتلال مباشرة، وقرار حكومة الاحتلال مصادرة سبعة آلاف دونم من أراضي بيت لحم، وبيت جالا، وبيت ساحور، وضمها لحدود بلدية القدس الاحتلالية، ووضع اليد على المقام التابع للأوقاف الإسلامية.
قاومت الخروبة للحفاظ على وضعها كعلامة، ودليل، وهاد للمسافرين، وواجهت الإغلاقات والحواجز، حتى الثلاثين من آذار عام 1993م، عندما قررت حكومة الاحتلال إغلاق القدس، أمام المواطنين، فبدأت بتعزيز الإجراءات العسكرية حول الخروبة المستوحدة، ولكنها استمرت بالمقاومة، ولم تتمكن حكومات الاحتلال المتعاقبة من إحكام حصارها حولها، حتى سنوات لاحقة، عندما سيج موقع الخروبة، ولم يعد يلحظها أحد.
تحول موقع الخروبة، إلى "معبر حدودي" بين المدينتين التوأمين، المتداخلتين، وهي تراقب العصف الاحتلالي بالمكان، الذي شمل أيضا مقام قبة راحيل، الذي حوله المحتلون إلى جيب عسكري واستيطاني، ومن أبراجه أطلقت النيران، ليرتقي عدد كبير من الأطفال والفتية، خصوصا في الانتفاضة الثانية، وتطل كذلك مواقع أخرى، مثل جرون الحمص، وهو حقل ارتبط بحكايات شعبية عن العذراء، الذي بنى عليه المحتلون معسكرا، وما زالت أعمال التجريف مستمرة حتى الآن، ومثل محيط دير مار الياس، وقناة السبيل التي نقلت المياه إلى القدس، على مدى ألفي عام، وخربة طبالية التي تجري فيها عمليات تجريف واسعة لإقامة مدينة استيطانية، وبئر الاستراحة وكنيسته، وجبل أبو غنيم، والوادي الشامي، وغيرها من مواقع.
لم يعش جبرا، الذي غادرنا في عام 1994م، ليرى ما حل بخروبته التي بدت له كقبة خضراء فسيحة، وهي الآن سجينة، غريبة.
https://www.alhaya.ps/ar/Article/132546/%D8%AE%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A9-%D9%85%D8%AA%D9%81%D8%AC%D8%B1%D8%A9-%D8%AD%D8%A7%D8%B5%D8%B1%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D8%AA%D9%84%D9%88%D9%86
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق