يستجمع نبيل جبريل، شتات ذاكراته، ليقدم ما
سماها: صفحات بين النكبة والنكسة، وهو عنوان تفسيري لكتابه الذي صدر حديثا عن دار
الرقمية في القدس بعنوان (عصافير الشمس).
ولد جبريل في خيمة في مخيم الدهيشة، المقام
على أراضي مدينة بيت لحم، في ليلة شتوية نزل فيها الثلج بكثافة على خيام اللاجئين،
الذين استقروا في المخيم، مهجرين من قراهم في جبلي القدس والخليل، والهضاب الوسطى.
في صباح اليوم التالي لمولده، تفقدته الجدة
خضرة، فوجوده ما زال عائشا: "إن الدم يمشي في عروقه". وهكذا دب نبيل، في
أزقة المخيم الذي ولد فيه ابنا لعائلة هجرت من قرية عجور، في قضاء الخليل.
حظ نبيل، كان أفضل بكثير من حظ كثير من
أقرانه، الذين كانوا يغادرون هذه الدنيا، بسبب ظروف المخيمات القاسية، وحسب
تقديرات فإن نصف أبناء اللاجئين في المخيمات كانوا يقضون، حتى منتصف الستينات من
القرن الماضي.
يتذكر نبيل، أراضي العائلة في قريتي مغلس
وعجور، وألعاب الأطفال في المخيم، والمواقع التي تفتحت عيناه عليها من المخيم،
كقبة مسجد الصخرة، وبرك سليمان الضخمة، خزانات المياه إلى القدس، ومقام الخضر، في
بلدة الخضر المجاورة، حيث تقدم النذور.
يتذكر أيضا، ناس المخيم، كالشيخ حسين الذي
يصحح للطفل نبيل، نطق ألفاظ القرآن الكريم، والشيخ العلاوي، ونساء الحارة.
يتوقف عند محمود الخطيب، أحد مثقفي المخيم،
الذي درس للصف الرابع في مدرسة قريته زكريا، وعمل مدرسا، ولكنه فقد عمله، بعد
اعتقاله سياسيا: "وبعد خروجه من السجن، لم يكن يجد حلا إلا العمل بالتدريس في
منزله في فصل الصيف، وكان يتجمع الأطفال عنده يراجع لهم الدروس، أو يعدهم للعام
الجديد".
يعود نبيل، بذاكرته إلى بعض معالم حارته،
كدكان الحاج محيسن، الذي كان يراه: "واقفا يتدبر شؤون الدكان، رغم تقدمه في
السن، وضعف نظره، وزد عليه آلام الجرح المزمن في أنفه. يبهرني صندوق الشاي الخشبي
الكبير ورائحة الشاي المنبعثة منه".
ومن المعالم أيضا فرن أمين، الذي أصبح منافسا
لفرن كمال المغلساوي. يقول نبيل: "أذكر أنه لما بدا بناء بيت النار، كانوا
يجمعون قطع الزجاج المكسورة من الشوارع تساءلت عن سبب ذلك، فقيل لي أن الزجاج يوضع
في أرضية الفرن ليبقى محتفظا بحرارته".
يعلق نبيل، الذي سيدرس لاحقا، الفيزياء في
العراق، على جمع الزجاج: "وهو التفسير العلمي الأول الذي تعلمته".
من العادات التي حملها اللاجئون من قراهم،
كيفية معالجة الجروح، واعتبار القهوة المسحوق الأساسي في وقف النزيف: "فكثيرا
ما شج الرأس بحجر طائش أو متعمد أو جرحت الأرجل بقطع زجاج، عندما كنت اركض حافيا
في لعب أو سباق".
ويودر نبيل، بعض المنظومات التي ارتبطت
بتقاليد دينية، كالختان مثلا، الذي يطلع به المطهر المعروف باسم الحانوتي:
طاهر يا مطاهر وناوله لأمه
يا دمعه نبيل بللت كُمه
طاهر يا مطاهر وناوله لأبوه
يا دمعة نبيل لولو لّظموه
يتنقل نبيل جبريل، بين الوجوه، وأيام المدرسة،
والعادات، والمفاهيم، والمواقع، بسلاسة، في أول تجاربه في الكتابة، التي لجأ، إليها
كما يقول، كواجب تجاه الأجيال الجديدة.
يقول: "ما بين واجبي تجاههم، وبين جينات
ورثني إياها أبي رحمه الله، وجدتني أكتب تفاصيل ذاكرة بحلوها ومرها، واسطر ما
سمعته وما عشته واقعا كما هو".
أما الباحث عزيز العصا، الذي راجع وحرر ما
كتبه زميله في الدراسة في بغداد بين عامي 1975-1979م، فيقول عن صديقه:
"التربوي الناجح والمبدع، القادم من عالم الفيزياء، التي درسناها معا في
الجامعة المستنصرية ببغداد. منذ ذلك التاريخ، وأنا اخبر نبيلا صاحب ذاكرة مدهشة؛
فهو يعيد لك الأحداث التي مر بها كما هي".
ينهي نبيل، كتابه، بمشهد النزوح، عبر الجسر
المحطم، على نهر الأردن، بعد حزيران 1965م، وصوله مع العائلة في قلاب، إلى عمان،
ولن يعود بعدها إلى مخيم الدهيشة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق