على
بوابة وواجهة قصر جاسر الرئيسة في بيت لحم، يظهر توقيع واحد من أشهر الخطاطين
العرب في زمنه، والذي يحتفظ بمكانته الفنية حتى الآن، وهو نجيب أحمد هواويني.
استقدم
الإخوة جاسر، هواويني (١٨٧٨ - ١٩٥٦م) وهو خطاط سوري عاش ومات في القاهرة متمصرًا،
ليخط الكتابات العربيّة على القصر الذي يعتبر من أهم المعالم العمرانية في فلسطين
خلال القرن العشرين.
يزين
مدخل القصر المهيب، في أعلى واجهته الأمامية، نقش للآية القرآنية الكريمة 53 من سورة
النحل "وما بكم من نعمةٍ فمن الله".
وعلى
عمودين في مدخل القصر نُقش: سليمان جاسر وإخوانه، وأسفلهما تاريخين يفصل بينهما
بنجمة، الأول سنة 1910م، والثاني سنة 1914م، وهما يشيران إلى بدء العمل والانتهاء
منه.
وهذا
النقش مع التاريخين يتكرر في مكان آخر على واجهة الدار-القصر، وبشكل فني مع وفرة
في الزخرفة. وتظهر هذه النقوش المستوى الرفيع للخط العربي، على يد هواويني، الذي
اعتبر حجة في الخط العربي، وصاحب البصمات في تأصيل الخط العربي وتجويده.
يذكره
خير الدين زركلي في موسوعته الإعلام: "من كبار الخطاطين. سوري عاش ومات في
القاهرة. امتاز بأكثر أنواع الخط. وتلقاه عنه كثيرون.
وكانت
الحكومة المصرية تنتدبه لمضاهاة الخطوط والأختام. ومنح لقب "خطاط السلطان
" وأنشأ رسالة في "التزوير الخطي" نشرتها مجلة الهلال. وكتب
"السلاسل الذهبية - عشرون كراسا مدرسية، تسعة منها بالرقعة وسبعة بالنسخ و4
بالثلث. وكان محاميا وألف كتاب "جامع الأدلة على مواد المجلة" وأحسن مع
العربية التركية والفرنسية. وله نظم دون الوسط".
هواويني
الذي حصل على وفرة من الألقاب، كخطّاط الملوك، وخطاط ملك مصر والسودان أحمد فؤاد
الأول، وخطاط جلالة الملك، وشيخ الخطاطين ونال رتبة البكوية، ولد في دمشق، وتلفى
الخط في تركيا على يد محمد عزت.
عمل
هواويني بعد استقراره في مصر، خطاطًا لملك مصر، وخبيرًا استشاريًا للخطوط العربية في
الديوان الملكي المصري، ومدرسًا في مدرسة تحسين الخطوط الملكية التي أنشأها الملك
فؤاد عام 1922م.
لهواويني
إنتاج شعري "دون المتوسط" حسب الزركلي، ومعظمه في رثاء شخصيات عرفها
كهدى شعراوي، ويوسف السبع الدمشقي، وفوزي المعلوف.
ولكن
له أيضًا شعر في جمال الخط العربي، مثل قصيدته محاسن الخطّ الحَسَنْ:
ألا
إن حُسْنَ الخطّ ألطف حـلـــــــــــــيِةٍ
يبـاهـي
بـه الأعـرابُ والـــــتُّرك والعَجَمْ
وربَّ
مقـالٍ صِيغَ مـن معـــــــــــدِن النّهى
فضـاع
لسُقْم الشكل مـا ضــــــــاء وابتسَمْ
نشرت
مجلة الاثنين القاهرية في عام 1950م، حوارًا مع من وصفته خطاط الملوك، شاركت في إجرائه
الفنانة المصرية فايدة كامل، وقال هواويني للمجلة، إنه كتب كثيرًا من عرائض
وخطابات الملك فاروق والملك فؤاد وأنه يتم دعوته من قبل ملوك وزعماء العالم العربى
لكتابة مراسيم لهم.
تروى
حكايات عن ثراء هواويني، وفقره في أخر حياته، وطرائفه وظرفه، ويدرجه الصحافي
المصري أنيس الدغيدي، الذي يصفه بشيخ الحطاطين وخطاط القصر ضمن: "قافلة عشاق
مي زيادة"، مع النخب الثقافية
والسياسية من وراد صالون الأديبة اللبنانية المشهور في القاهرة.
ويروي
الدغيدي في كتابه (غرام الكبار في صالون مي)، بعض الطرائف عن هواويني ورفاقه،
تناسب كتابا صحافيا، يهدف إلى الرواج.
وعلاقة
هواويني في فلسطين، لم تقتصر على قصر جاسر، وإنما امتدت إلى الحياة الثقافية فيها،
فهو من خط كتاب (ضجعة الموت) لمؤلفه الدكتور داهش بك، صاحب الطريقة الداهشية.
نظم
الكتاب النثري، شعرًا، الشاعر مطلق عبد الخالق، الذي رحل باكرًا عن عالمنا في عام
1937م، وهو أحد أتباع الدكتور داهش، بعد عام من صدور الطبعة الأولى للكتاب الذي
طبع في مطبعة دار الأيتام السورية في القدس.
وقدم
عبد الخالق في بداية الكتاب، كلمة تقدير لهواويني: "إن هذه الخطوط البديعة
الممتعة التي يراها القاريء محلّية هذا الكتاب، موشّية فصوله، مطرّزة أناشيده، هي
من قلم الفنّان الكبير والشاعر الرقيق الأستاذ نجيب بك هواويني خطّاط الملوك، الذي
طبقت شهرته الخافقين وذاع اسمه في كلّ مكان".
كان
هواويني مشاركا في الحياة الثقافية المصرية، ويظهر ذلك مثلاً، في مساهمته على
صفحات جريدة الأهرام القاهرية، في النقاش الذي ابتدأه الملك فؤاد الأول حول
الكتابة باللغة العربية، حول ترقية اللغة العربية، وأكد هواويني، بان القاعدة
الأساسية في جمال الكلمة التناسب بين أجزائها، وقدم اقتراحات هامة لتطوير الطباعة
باللغة العربية.
وكشف
الأديب اللبناني، في حوار نشرته صحيفة الحياة اللندنية يوم 31 أكتوبر 2009م عن
جوانب من أسلوب تعليم الخط لدى هواويني الذي يصفه بالشامي المتمصِّر المقيم في
القاهرة، وعن مراسلته له قُبيل الحرب العالمية الثانية: "كان نجيب هواويني
عميد خطاطي جيله، وكان من أركان مدرسة تحسين الخطوط العربية في مصر، فرحب بي هو
أيضًا. ثم رقم لي اسمي، فطبعتُه على ما أستعمل من أوراق المكاتيب وبطاقات الزيارة
والمغلفات، وما أزال إلى اليوم أُعيد تلك الطباعة. وأذكر أن هواويني كان يخطّ بقلم
من غزار يغطّه في لِيْقَةٍ مبللة بالحبر الإسطمبولي الفاحم الذي عُرف في شرقنا قبل
الحبر الصيني. وكان خطاطنا، حيثما ذهب، وضع في جيبه قلم الغزّار والليقة وقُنَّينة
الحبر. فعلّمني بالمراسلة بضعة خطوط مع قياس حروفها بالنقط ومع هندسة ألفاظها
وسطورها وحركاتها وفقاً لقاعدة كلِّ خط منها. أما رسائله الشخصية، فكان يكتبها
بخطه الفارسي الهواويني الأسلوب والمستقل، في شيء ما، عن الخط الفارسي الذي يقال
له «نستعليق» والذي يمتاز به الخطاطون في بلاد فارس وباكستان والجوار الآسيوي
هناك. فبقيت عدة أشهر أتدرّب، في سوانح المراسلة، على الخط الرقعي والفارسي
والنَسخي والثلثي فضلاً عن الخطين الديواني والديواني الجَلي".
يعكس
اختيار الإخوة جاسر، هواويني، لتولي نقش الكتابات العربية على القصر، بالإضافة إلى
مستوى ثرائهم، حسا ثقافيا عاليا لنخبة جمعت في ثقافتها بين الشرق والغرب.
لم
يدم ثراء آل جاسر طويلاً، ولكن الحس الثقافي، المتمثل، في عمارة القصر، وخطوط
هواويني، ما زال ظاهرا، ورمزا لحقبة فلسطينية، تتطلع خلالها الفلسطينيون إلى
مستقبل أكثر إشراقا، وبناء أمة في ظروف ما بعد الحرب العالمية الأولى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق