يستكشف الباحث سميح
حمودة في كتابه الصادر حديثا (رام الله العثمانية: دراسة في تاريخها الاجتماعي
1517-1918) عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، تاريخ مدينة رام الله في العهد
العثماني، خصوصا من خلال استنطاق سجلات المحاكم الشرعية، بالإضافة إلى قراءة في
كتب الرحالة وكتاب من مدينة رام الله.
ولا شك أن القسم
الأول من الكتاب، الذي يتعلق بالحجج الشرعية والأحكام القضائية والوثائق هو الأهم
في الكتاب، والذي تميز به الباحث عن الباحثين الآخرين الذين كتبوا عن رام الله،
أمّا القسم الثاني الذي يستعرض فيه ما كتب عن رام الله، فجزء منه يتعلق بالريف
الفلسطيني بشكل عام، وليس عن رام الله.
قرية زراعية
إسلامية-مسيحية
يحدد حمودة موضوع
منهجه في الكتاب الذي يعالج: "تاريخ رام الله في العهد العثماني باعتباره
جزءاً من تاريخ الريف الفلسطيني، وجزءاً من تاريخ المسيحيين العرب، وهو محاولة
لتقديم دراسة تتبع قدر المستطاع المنهج الجزئي. فرام الله، قبل أن تتطور وتصبح ما
هي عليه الآن، كانت خلال معظم حقبة التاريخ العثماني في فلسطين، والممتدة من سنة
1517م، حتى سنة 1918م، مجرد قرية زراعية صغيرة واقعة في قضاء القدس، وقد شكل المسيحيون
من الروم الأرثوذكس الأغلبية من فلاحيها منذ أن سكنوها في سنة 1561م، ثم أصبحوا
سكانها الوحيدين بعد خروج المسلمين منها بعد سنة 1656م.
ويشير إلى أن دراسة:
"تاريخ الوجود المسيحي في رام الله، وعرضه ضمن تاريخ المنطقة المحيطة، يضفيان
نظرة عميقة على التعددية الدينية في المجتمع الفلسطيني خلال عهد الدولة العثمانية.
وما يلفت النظر في هذا السياق أن رام الله كانت في العهد المملوكي قرية إسلامية
موقوفة على مصالح الحرم الإبراهيمي وقبة الصخرة المشرفة، لكنها خربت في أواخر ذاك
العهد، وبقيت مهجورة إلى أن بدأت الحياة تعود إليها في بداية العهد العثماني
فأصبحت مزرعة، ثم قرية صغيرة تسكنها بضع عائلات مسلمة، ونمت بعد ذلك كقرية مشتركة
يسكنها المسلمون والمسيحيون منذ هجرة عائلتي الحدادين والنقاش المسيحيتين إليها في
سنة 1561م، إلى أن تحولت لاحقاً إلى بلدة مسيحية تماماً".
ويلاحظ الباحث أن:
"رام الله خربت في أواخر العهد المملوكي ضمن القرى التي خربت وهجرها
أهلها في فلسطين، فقد شهدت تلك الفترة
صعوبات اقتصادية هائلة جراء تحويل طرق التجارة المارة من فارس فالعراق أو سورية،
إلى طريق رأس الرجاء الصالح، والتي سيطر عليها البرتغاليون، وكذلك بسبب انتشار مرض
الطاعون الفتاك، والمحل والجفاف اللذين تسببا بالمجاعات المهلكة للسكان. وشهدت هذه
الفترة أيضاً غياب الأمن وكثرة الاعتداءات وتفاقم الظلم على الفلاحين من جانب
سلاطين المماليك والولاة، ومنها فرض التجنيد الإجباري في الجيش المملوكي، وزيادة
الضرائب، كتلك التي فرضت لتمويل الحروب (التجاريد)، وللدفاع عن السلطنة ضد الخطر
العثماني على المماليك".
يدرس حمودة الحياة في
رام الله العثمانية منذ بداية استيطان المسيحيين فيها في نيسان / أبريل 1561م، حتى
بداية حملة نابليون على فلسطين في شباط / فبراير 1799م. وكانت رام الله خلال تلك
الفترة قرية مختلطة بين المسلمين والمسيحيين، ثم تحولت إلى قرية مسيحية خالصة، بعد
خروج المسلمين منها في سنة 1656م.
ويشير إلى أن رام
الله كانت: "منذ العهد المملوكي قرية زراعية تابعة لأوقاف الحرمين القدسي
والخليلي، وبقيت في العهد العثماني تدفع حصة الوقف، وهي عشر ناتجها الزراعي.
والواضح من المصادر التاريخية أن الدولة العثمانية أبقت الوقف على حاله، ولم تلغ
شيئاً منه، وإنما سعت لزيادته وتطويره واستمراره".
ويقرر بان الحياة:
"في رام الله في العهد العثماني بالبساطة، وحكمتها القيم القبلية والعشائرية
العربية، وقامت بين سكانها علاقات تعاون وتكافل في مختلف المجالات، مثل الزراعة
والحصاد وبناء البيوت. ولم تختلف حياة مسيحييها ومفاهيمهم وقيمهم عن حياة نظرائهم
المسلمين في القرى المجاورة، فرام الله أساساً، كانت مجتمعاً زراعياً تدور حياة
سكانه حول فلاحة الأرض".
وأظهرت الحجج التي
درسها حمودة: "حدوث خلافات ونزاعات تجارية ومالية بين الأهالي، وهي لم تكن
ناجمة عن الانتماء الديني قط، وإنما كانت خلافات عادية تنشب في أي تجمع بشري،
فالمسلمون والمسيحيون تنازعوا فيما بينهم، ومع بعضهم البعض أيضاً".
وتوضح حجة يوردها
الباحث مؤرخة في 5 ذو الحجة 999هـ / 24 أيلول (سبتمبر) 1591م: "جوانب من
العلاقات التجارية لسكان ناحية القدس، ومنهم أهالي رام الله، وأنهم كانوا يرسلون
مع قوافل تجارية بضائع وحيوانات للبيع في دمشق. وتقول الحجة إن شاهين بن إسحاق
النصراني من رام الله ادعى في مجلس الشريعة المطهرة في محروسة القدس الشريف، لدى
القاضي إسماعيل أفندي، على شرهان بن منصور النصراني البجالي، وقال في تقرير دعواه
أنه سلم جمله إلى شخص يدعى معن بن مصلح من كفر عقب أصلاً، ويسكن قرية البيرة،
ليبيعه له في دمشق الشام، فأخذ معن الجمل معه وباعه في دمشق بثمن قدره 25 سلطانياً
ذهباً".
رام الله المسيحية
لم تستمر رام الله
كقرية إسلامية-مسيحية، ويتبين من حجة شرعية دونت في سجل المحكمة الشرعية في القدس
بتاريخ 3 ذو الحجة 1066 هــ / 22 أيلول (سبتمبر) 1656م، كما يشير حمودة، أن مسلمي
رام الله باعوا حقوقهم للنصارى في أواخر ربيع الأول 1066 هــ / 27 كانون الثاني
(يناير) 1656م.
ويقارن حمودة بين
الوثائق المتوفرة، والحكايات الشعبية عن تأسيس رام الله من قبل عائلات نزحت من
منطقة الكرك إلى فلسطين، واستقرت أخيرا في رام الله، وتوصل إلى بعض الاستنتاجات
الهامة بهذا الخصوص.
لم يكن تطور الحياة
الاجتماعية والاقتصادية في رام الله يسير بخط مستقيم، ولكنه تأثر بالأحداث التي
شهدتها الإمبراطورية العثمانية، كاشتراكها في الحرب العالمية الأولى، ويرى الباحث أن
ذلك: "وجه ضربة قاصمة إلى مسيرة التطور المحلي الداخلي، إذ شغل المجتمعات
المحلية بهذه الحرب الأوروبية، وأنهكها اقتصادياً واستنزف مواردها، وعطل مسيرتها
في البناء والتنظيم، ثم انتهى بها، بعد هزيمة الجيش العثماني العسكرية ورحيله عن
فلسطين، إلى الخضوع الكامل للإدارة الاستعمارية البريطانية التي أعادت، من جهة،
مسيرة النمو والتنظيم، لكنها في الجهة المقابلة، سمحت للمشروع الصهيوني بالنمو
والتطور، وحضنته ورعته حتى أصبح قادراً على افتراس ضحيته الفلسطينية".
يؤكد حمودة انه حاول في
كتابه تبيان ما يراه أن: "المنهج الصحيح في دراسة أوضاع المسيحيين في الدولة
العثمانية يقتضي دراسة كل تجمع من التجمعات المسيحية ضمن أوضاعه وبيئته الخاصة،
منفصلاً عن التجمعات التي عاشت في بيئة مختلفة، فلا يتم تعميم ما واجهه وعاشه تجمع
مسيحي في منطقة ما على المسيحيين عامة؛ كما يقتضي هذا المنهج دراسة أحوال هذه
التجمعات بتغيراتها وتقلباتها عبر مختلف العصور من دون تعميم النتائج على تجمعات
أخرى في مناطق أخرى".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق