يبدو الوصف التوراتي
لعوج بن عناق، إلى أبعد حدود الفانتازيا الأدبيَّة، عن من يضع يده في الماء،
فيلتقط، بكل بساطة، حوتًا، ويرفع ليشويه في الشمس، ويزدرده، ثم يعترض أيَّة غيمة
مارة، فيعصرها ليبل ريقه، ويهضم ما أكله، أو ربّما الأصح ما ابتلعه. حكاية عوج بن
عناق فيها تفاصيل عديدة، يمكن للمهتم أن يبحث عنها، بطريقته، في الكتب المقدسة
(العهد القديم، مثلًا) وتفاسيرها (تفسير القرطبي للقرآن الكريم، مثلًا)
عوج هو واحد من القوم
الجبارين، الذين طالما افتخر بهم الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي اختط تأويلًا
خاصًا لآيات قرآنية، استجابة لتحدي واقع الاستعمار الإسرائيليِّ، لا شك أنه
(التأويل) مثير للجدل. لا أعرف إذا كان يشير إلى ضعف فهم الرئيس الراحل، للقرآن
الكريم، أم أنّه فقط استجابة العقل العرفاني العربي لتحديات استعمار حديث، مدعوم
من أكبر إمبريالية في التاريخ؟
في منطقة المسكوبية
في القدس، عثر في عام 1871م، على عمود حجري مثير، طوله نحو 12 مترًا، ومتوسط قطره
1.75 مترًا، ويقدر وزنه بنحو ستين طنًا، ولم يكن بالنسبة لعلم الآثار التوراتي سوى
إصبع العملاق عوج، ملك باشان. من كشف عن هذا العمود هم المقاولون الروس، ويقع الآن
قبالة كنيسة الثالوث الأقدس، وعندما ظهرت دلائل على وجود آثار في الموقع، حُفرت
ثلاثة خنادق، مما أتاح تقدير الأبعاد الهائلة للعمود غير المكتمل، والذي لا يزال
يقع في قاع المحجر الذي قُطع منه.
ذكر العمود
الدبلوماسي والأثري والمستشرق الفرنسي تشارلز كليرمون جنو (19 فبراير 1846 - 15
فبراير، 1923)، والذي يعتبر من أبرز علماء الآثار الذين اختصوا بأرض فلسطين في
القرن التاسع عشر.
افترض جنو، المشبَّع
بالفهم التوراتي لتاريخ فلسطين بناءً على أبعاد العمود، أنَّه حُفر، ليكون بمثابة
حج في الهيكل الثاني في زمن هيرودس، وأنَّه بقي في المحجر لأنّه تضرر أثناء العمل
به. استند في تقييمه إلى وصف الهيكل من قبل يوسف بن متتياهو. الأمر كان منطقيًا
أكثر لدى عالم الآثار الإسرائيليِّ يورام تسافرير، الذي اقترح أن الهدف من نحت
العمود، للاستخدام في بناء كنيسة نيا البيزنطية، التي يقسمها الآن آخر سور للقدس
الذي بناه العثمانيُّون، وتظهر في خارطة مادبا الفسيفسائية، وهذا التأويل يتناسب
مع تخصص تسافرير، في التأثير البيزنطي على المعابد القديمة، والديموغرافيا لفلسطين
في الفترة البيزنطية.
يعتقد تسافرير، حدوث
تصدع أثناء العمل، وهذا ما يرجح ترك العمود، في موقعه الحالي، ودعم تأويله بوجود
مقلع قديم في الموقع من فترة الهيكل الثاني، والمقصود بالطبع الفترة الرومانية
المبكرة في فلسطين. ليس "إصبع عوج" هذا فريدًا، ففي القدس، عثر على
عمودين شبيهين إلى الغرب منه، في لفتا الفوقا (حي محانيه يهودا الآن)، ولكنهما
أُخفيا تحت البناء الحضري في المدينة.
في داخل معتقل المسكوبية،
يقبع الأسرى الذين افترض عرفات أنَّهم من جماعة عوج بن عناق الجباري، ولكنهم ضعفاء
يتعرضون للتعذيب وأحيانًا للقتل، بينما إصبع "جدهم" يتمدد خارجًا
محافظًا عليه.
في سِفر العدد تفاصيل
بالأسماء والوقائع، وفي سورة المائدة، وصف لدخول بني إسرائيل، فلسطين، والنقاش بين
موسى ورفاقه، بعد تحذيرهم من القوم الجبارين، وحسم الجدل من قبل الجاسوسيين الذين
دخلا فلسطين:
-يوشع بن نون، الذي
سينظر إليه كنبي مبجَّل، في التراث الإسلاميِّ، وستبنى له المقامات على ضفتي نهر
الأردن، وقرى تحمل اسمه، منها قرية أشوع، غرب القدس، التي تحوّل أهلها إلى لاجئين
منذ النكبة. وقرية باسمه فلسطينية-لبنانيَّة نكبو ناسها أيضًا، وكانت محج لأبناء
الطائفة الشيعيَّة الكريمة، فمكانة علي بن أبي طالب بالنسبة للنبي العربي الكريم، لها
مثيل مع مكانة يوشع بالنسبة للني موسى.
-كالب بن يفنه، المخلَّد
في تراث الفلّاحين الفلسطينيّين، في عين أبو كليبة في قرية نحالين، ولن يجد
مستوطنو مجمع عتصيون الاستيطاني، جنوب القدس، الذين سيطروا على العين، بقوة الحديد
والنَّار، صعوبة في نسبتها إلى كالب بن يفنه، معتقدين أنَّ تراث الفلّاحين
الفلسطينيّين الطويل المتوارث، والذين غيروا دينهم عدة مرات، حفظوا اسم الجاسوس
المقدَّس، رغم تصحيفه الخفيف.
وفي رأس العد في وادي
البيار، من حيث شُقت قنوات لتشرب القدس، تعاني عائلة أبو شما من قرية الخضر من
العدوان الاستيطاني الذي يروج الموقع باعتباره المكان الذي عثر فيه يوشع وكالب على
قطف عنب ضخم، فعلقاه على عصا، وحملاه على كتفيهما، ومن هذا التخيّل، اشتق شعار
السياحة الإسرائيليَّة.
أكد الجاسوسان، أنَّه
يمكن لفئة مؤمنة قليلة، التغلُّب، بدعم من الرب، على فئة معادية حتّى لو كانت من
طويلي الأعناق الجبَّارين، أحفاد عناق، ابنة آدم التي ألصقت بها عدة أوصاف، أجل عن
ذكرها هنا.
تفصيل من سورة
المائدة: "أ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ
اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ
(21) قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن
نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا
دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ
غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23). وفي
تفسير الطبري، أكثر من تفاصيل.
"يا ناصر السبعة
على السبعين"-تصبح قانوناً، وشعرًا شعبويًا.
سيتحقق النصر
الإسلامي الأوَّل، من قبل الفئة القليلة العدد، المؤيدة من الله، على الفئة المكية
الكافرة الكثيرة العدد والعتاد، في شهر آذار 624م، في معركة بدر.
واضح أن القرآن
الكريم، لا يتعاطف مع القوم الجبَّارين، هذا الوصف تعويض تأويلي ديني مناسب
للمهزومين، متبنى من عرفات؛ رمز لحركة المقاومة الفلسطينيَّة المعاصرة، استخدمه،
على الأرجح، في أُفولها. سيتغلَّب النبي موسى، على عوج من القوم الجبَّارين، في
حكاية عجائبية هي الأخرى، ولكنّها مباركة.
لماذا يجب على
الفلسطينيّين، أن ينتسبوا للقوم الجبَّارين، أو القوم الذين وعدهم الله، بالأرض
المقدَّسة؟ فلسطين في القرآن هي: "وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ
يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا"-
سورة الأعراف: 137. "كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ"-سورة الشعراء: 59 "وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى
الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ
الْوَارِثِينَ"-سورة القصص: 5
يتبنى عرفات تأويلًا،
للآية التي تتحدَّث عن بني إسرائيل، قاصدًا الشعب الفلسطينيِّ، ولم يكن يخلو
خطابًا له، في سنواته الأخيرة من ترداده لهذه الآية.
#أثار_القدس
#أساطير_الأولين_في_فلسطين
#أسامة_العيسة