….سيبدي
البابا (على الأغلب بندكت الخامس عشر)، اهتمامًا بمستوي الأخلاق في القدس، لدى
لقائه حاكمها البريطاني رونالد ستورس، الئي اطلع بمهمة تبديد قلق البابا حول
التقارير التي تصله حول "اتساع نفوذ اليهود"، ولعله فرح لمنع ستورس عرض أفلام
قد تخدش حياء الكنيسة الكاثوليكية، الذي اتخذ قرارًا بمنع إقامة حفلات الرقص،
الخاصة والعامة، داخل أسوار البلدة القديم.
ولكن
أكثر ما كان يقلق البابا ما سمعه عن إدخال البريطانيين لفتيات "سيئات
السمعة" إلى المدينة وجدوا حي كامل للمومسات مكون من ٥٠٠ امرأة كن يمارسن
نشاطهن في الزمن العثماني، ويفخر بأنهم ألغوا حيّ المومسات المفترض، وهو ما ابلغه
للبابا.
أين
كان يقع هذا الحيّ؟ لا أعرف ، لعل ستورس في الواقع مارس المبالغة الاستعمارية،
وعلى الأغلب بان البابا، الذي يتلقى بشكل دوري تقارير من المدينة المقدسة لم
يصدقه.
(عام الجراد: مذكرات جندي مقدسي في الحرب
العظمى)، هو يوميات خطها يوما بيوم الجندي المقدسي في الجيش العثماني إحسان
الترجمان، متطرقا إلى المجاعة بسبب ظروف الحرب، ويصف محرر الكتاب سليم تماري المذكرات بأنها صرخة مدوية ضد أخلاقيات
الحرب، ولم تتوقف معاناة الفلسطينيين على المجاعة، ففي صيف عام 1915م وصل الجراد
إلى القدس، وتبعه انتشار الكوليرا والتيفوس.
وانتشر
المتسولون في المدينة المقدسة، والمومسات في الشوارع، ومن بينهن أرامل الجنود
الذين يتساقطون في حرب ليس لهم علاقة بها، ويبدي الترجمان شفقة عليهن، ولكن موقفه
من المومسات لم يتوقف عند حد الشفقة، فهو تطرق إلى جانب آخر وهو الدعارة العلنية،
أو الشرعية، وهو أمر قد يكون مفاجئا لمدينة مثل القدس، أكثر محافظة من مدن أخرى
مثل دمشق وبيروت ويافا، حيث استحدث الجيش العثماني دورًا مخصصة للبغايا في القدس
لخدمة الضباط وفيما بعد توسع الأمر لخدمة المجندين، وبمناسبة اعتلاء السلطان محمد
رشاد الخامس للعرش في 27 نيسان 1915، أمر جمال باشا بإحياء هذه المناسبة في حفلة
ضخمة دعا إليها ضباط عثمانيين ونمساويين وأعيان من القدس، وما أثار صاحب المذكرات
دعوة 50 من المومسات، للترفيه عنهم، وأيضا تم دعوة زوجات الوجهاء، ويستهجن كاتب
المذكرات هذا الخلط بين النوعين من السيدات، ومن الحدث كله، خصوصا وانه تزامن مع سقوط
آلاف الجنود من الأتراك والعرب في (جناق قلعة).
لم
تضطر القدس في تلك الفترة الحرجة إلى بيع جسدها فقط، ولكن أيضا كانت تفقد شبابها
الذين يعلقون على أعواد المشانق التي تنصب على أبوابها، لشكوك بميولهم القومية
العربية.
في
كل هذه الظروف، كان الترجمان يراقب ويكتب بشكل سري، حتى وصلت مذكراته إلينا، بعد
كل هذه السنوات بشكل يشبه المعجزة، رغم أن صاحبها دفع حياته ثمنا لتلك الظروف، ففي
يومياته، يكتب الترجمان، عن غزل أحد الضباط الألبان به، والذي كان يرسل له رسائل
مليئة بالعشق المثلي، وعندما وجد ممانعة من الترجمان، اخذ باضطهاده، وتنقطع
اليوميات، فجأة، عند هذا الحد.
السبب
انه مع انتهاء الحرب، تنتهي حياة الترجمان، كيف حدث ذلك، هذا ما يمكن أن نجد له
تفسيرًا في رواية عائلته، التي يذكرها سليم تماري، وهي أن ضابطا عثمانيا اغتاله
بإطلاق الرصاص عليه، قبل سقوط القدس بيد الإنجليز في 9 كانون الأول 1917م. وسيبدي
خليل السكاكيني في إحدى يومياته حزنه على مقتل الترجمان.
أورث
الاحتلال العثماني المومسات، للاحتلال البريطاني، الذي لم يكن بحاجة إليهن، فتاه
ستورس فخرا وهو يعلن للبابا القضاء عليهن.
ماذا
يمكن أن يورث احتلال لاحتلال آخر؟ غير جينات بؤس الشعوب المحتلة..!