ذاكرة بشير
قنقر الضبابية..!
استقبل الفنان
بشير قنقر (1980م) زوار معرضه (ذاكرة ضبابية) الذي افتتح في جاليري باب الدير في
بيت لحم القديمة، بكثير من دفق المشاعر، التي أخفت خلفها لوعة، فقنقر، كان يستعد
للهجرة من فلسطين، الى النمسا، بعد يومين من افتتاح المعرض.
شتات ذاكرة
يحلو لقنقر
ومتابعي فنه، بوصفه بالفنان العصامي، الذي أثّر فيه استشهاد والده خلال الانتفاضة الأولى،
بشكل عميق على تفكيره، وفلسفته الفنية، وسيظهر هذا لاحقا في أعماله الفنية، التي
ركزت، حسب الكتيب الخاص بالمعرض على: "الاحتياجات والسلوكيات الإنسانية
وعلاقتها بالمحيط وعلى الرغم من أنه فنان عصامي، فقد استطاع استخدام وسائط وتقنيات
مختلفة ناتجة عن أبحاثه وملاحظاته لمحيطه الأمر الذي أدى إلى استخدامه لوسائط
متنوعة من الرسم إلى الأعمال الرقمية والتركيب".
تجربة قنقر مع
الاغتراب، طويلة، فهو درس العلوم الاجتماعية الإنسانية في هايدينهايم في ألمانيا
وعاش فيها لأكثر من 7 سنوات، وعاد في عام 2008 إلى مسقط رأسه بيت جالا. حيث عمل في
قسم العلاقات العامة والإعلام في مستشفى كاريتاس للأطفال في بيت لحم وكان أيضاً
مدرساً للفنون الجميلة في كلية دار الكلمة الجامعية.
شارك في
العديد من المعارض وورش العمل محلياً ودولياً، ومنها في ألمانيا وإيطاليا
والولايات المتحدة الأمريكية وأندورا والسويد وبلجيكا وفرنسا وجنوب إفريقيا.
يختلف معرضه
هذا عن معارضه الأخرى، كما يقول فلوحاته هي تجميعات، لأعمال نفذها ما بين المشاريع
الفنية التي كان يعمل عليها.
يقول قنقر:
"لوحاتي في هذا المعرض هي محاولة لاسترجاع الأشياء الجميلة من الذاكرة، ومن
هنا جاء اسم المعرض ذاكرة ضبابية".
ويضيف:
"أنجزت هذه الأعمال على مراحل معينة وفي الفترة ما بين 2013-2016م، وهي تمثل
رغبتي في الابتعاد عن الواقع، لأريح نفسيتي وابعد قلقلا عن تعب المشاريع التي
أنجزها، إنها تروي عن المواقع الجميلة التي رايتها وأحببتها".
سيعيش قنقر،
كما قرر، في النمسا، بشكل مستمر، ويقول بأنها ستكون منطلقا له، لمشاريعه وأعماله،
ويأمل عندما يعود إلى فلسطين أن يعمل مع الفنانين هنا.
بصمات نابضة
تقول الفنانة
جمانة إميل عبود في تقديمها للمعرض: "يقدم معرض بشير قنقر (ذاكرة ضبابية)
مجموعة جديدة من الأعمال الفنية، تشمل لوحات وفيديو آرت، مستوحاة من ذكريات تنتمي
إلى وقتٍ آخر، ومما تركته هذه الذكريات من بصمات نابضة على أسطح المياه
وانعكاساتها. سافر قنقر في الزمن عائداً إلى ما قبل أكثر من عقد – إلى زمن كان
خلاله يعيش في أوروبا ويتنقل فيها. يعود بالذاكرة إلى ذلك الزمن الذي كان فيه
يتمشى في حدائق ألمانيا والنمسا – ويتذكر جمال المناظر الطبيعية، وتلك المياه
الساكنة بصفحتها العاكسة، ويعود بهذه الذكريات إلى مرسمه لينقل، بإيماءات مدروسة
بعناية، وعواطف مشبعة بعمق، رؤى من وقت ومكان آخرين".
ولكن هذا لا
يعطي صورة عن موضوعات المعرض، الذي قال قنقر بحماسة، بأنها مستوحاة من طبيعة ريف
بيت لحم المحلية، في حوسان، وارطاس، وبتير، وغيرها، وهذا ما يخبره لرواد المعرض
الذين يعتقدون ان الطبيعة الجميلة التي يقدمها في أعماله، ليست محلية.
تضيف عبود:
"ذكرياتنا هبات هشة تسكن في الخفاء – كلما ابتعدنا عنها كلما أصبحت أكثر
ضبابية. يريد الفنان أن يتشبث بوقت يتذكره بشغف. خصوصية تلك الذاكرة أو الوقت ليست
ضرورية بقدر ما هو المحرك العاطفي. عندما ننظر إلى لوحاته، من الصعب أحياناً أن
نرى أين يلتقي الماء بالسماء، وهذه النظرة اللامحدودة تستثير وعداً أبدياً غير
مقيد صوب رغبة (مستقبلية). وبذلك فإنها لا تدعي ببساطة ارتباطها بالماضي وحده.
يدعونا قنقر إلى النظر إلى عمله وإعطاء
نظرتنا الأثر التنويمي نفسه المساوي لأثر نظرتنا. فيما لو كنا في حضرة المشهد
الطبيعي، بين آيات الإزهار الربيعية، المغلفة بسماء زرقاء شاسعة، أبدية التوسع. لا
يمكننا أن نعتبر نظرتنا أمراً مسلماً به، إذ يدعونا إلى التساؤل عما إذا كانت
ذكرياته الضبابية تشي بحنين إلى زمن ضائع حبيس في ذاكرته، أم أنها يمكن أن تكون
انعكاساً لمكان وزمان ينتميان إلى الحاضر، كمثل قصيدة بصرية تسعى إلى الكتابة عن
الماضي وتجد نفسها تنبض نسقها الإيقاعي بكثافة اللون، لتعكس سطح ما هو مادي وغير
مادي على حد سواء، وبذلك تقوم بتجسيد واقع حالي للكينونة والواقع".
حافة البحيرة
ترى عبود:
"إن الانعكاس الذي يقوم بتقديمه قنقر وسط نسيج الألوان، هو انعكاس للموضوع
الموجود عند حافة البحيرة داخل ذاكرة الفنان، كما أنه تأمل استبطاني. بدلاً من
تصوير لحظة حبيسة في قبضة ماضينا حيث تحاول المياه تقليد الحياة من خلال تقديمها
صورة منعكسة لها، تصبح الصورة تجريداً جميلاً للوقت، رؤية ضبابية للوقت، لأنها
تمتلك في متناول يدها التصوير غير المرئي لمكان أو للحظة لا تنسى. تصبح ضبابية من
حيث قدرتها على اقتراح أسطح متعددة، حيث لا يمكن للانعكاس أن يقدم بأمانة صورة طبق
الأصل للوقت، ولا يمكن الوثوق به نسخة طبق الأصل عن التجربة. لذلك فإن الانعكاس
يتجسد، وبذلك يتحول، ويكتسب لغة جديدة للكينونة – لغة تنسجم مع الحاضر بقدر ما
تستلهم الماضي. جاءت إلى الوجود نتيجة للشيء أو الموضوع الذي تحاول أن تعكسه، إلا
أن اللوحات تجعلنا ننسى نقطة البداية – النموذج إذ جاز التعبير – الموضوع الذي
تعكسه، وبدلاً من ذلك، تدعونا للتأمل في السطح، والنظر إليه ببساطة دون الحاجة إلى
التمييز – نحن لا نبحث عن أشياء نميزها في الانعكاس – الموضوع (أو اللحظة أو
التجربة) الذي تحاول الانعكاسات أن تصوره يختفي، وتولد مكانه هوية جديدة، صورة
بديلة أو واقع بديل، ربما يكون تنويمياً أكثر من الموضوع الذي حاول أن يعكسه في
المقام الأول".
ثنائية
الطبيعة
تقول عبود:
"هناك حالة متوازية للحضور في عمله – ثنائية الطبيعة – لا تختلف عن ثنائية
وجودنا الإنساني، بجماله وتوتراته – حيث يمكن أن يكون تفكيرنا ورغبتنا في مكانين
في وقت واحد. يدفعنا تأثير واقع (أو ذكرى) معينة إلى التفكير في واقع آخر
والانتقال إليه. فكما هي وظيفة الماء أن يعكس صورة الموضوع الواقف على حافته،
بموازاة سطحه المادي، لا يمكننا إنكار أن الماء أيضاً يحمل معنىً رمزياً – معنىً
يظل مخلصاً لوظيفته بأن يعكس عقولنا الباطنة، ودواخلنا أو أنفسنا المخيفة،
ومخاوفنا، ورغباتنا".
وتضيف: "تكمن
في داخل الألوان المتعددة الطبقات للوحات قنقر ثنائية تدعمها ذكرياته، كما تدعمها
تجاربه الراهنة، ما يضفي على عمله الفني قوةً، مصدرها انعكاسات تتعلق بالحنين
وبالزمن الحقيقي في آن معاً. كتموجات يخلفها سقوط حجر على سطح الماء، وقد ابتلع
الماء ذاته هذا الحجر، وأصبح الآن غير مرئي للعيان – لكن يبقى فقط تأثيره وصداه،
كذلك هي التركيبة الطبقية المعقدة لذاكرة قنقر الضبابية. بدلاً من أن يأمر المياه
بأن "تنشق" وتكشف عن صدق الواقع المخبأ فيها. يقوم الفنان، بنية ملتزمة،
بالإيحاء بلوحة ألوانه، ليحميها. ولكن ما الذي يحاول إخفاءه وحمايته؟ هل يمكن أن
يكون أنه في محاولته التعبير عن بساطة المناظر الطبيعية وجمالها، يتحدث إلينا عن
أرض، وانتماء إلى أرض. أرض العقل والجسد – أرض الذاكرة، وأرض التجربة الحالية مع
قوات الاحتلال التي حرمت الفنان من الوصول إلى الكثير من مياه هذه الأرض؟ يكمن
جمال العمل في أنه قطعاً يدعي أنه ينتمي إلى أرض محددة. ما يخلقه قنقر من شبكة من
الأسطح المائية وانعكاساتها لا علاقة قوية له بمكان جغرافي على خارطة، أو بكشف عن
ذكريات وبوح بها، بل يتعلق بخريطة أو أرض داخلية تنعكس على السطوح، وبمدى عمق ما
تلعبه الذاكرة من دور في حياتنا عند مقارنتها مع الواقع".
تتذكر عبود:
"عندما التقيت بشيراً في أستوديو الرسم الخاص به، استخدم كلمة
"فيضان" بأريحية عند حديثه عن صيرورة عمله. تتحرك الألوان الشاملة
صعوداً ومن جانب إلى آخر، فتكاد تكتسح أسطح اللوحة، في هيئة فيضان شامل واندماج
للطرق. تغرينا أعمال قنقر بالمشروع في رحلة مشبعة بالطاقة النابضة – هادئة
ومستعرة، مكبوحة وغير مقيدة، ومتأنية وغريزية. طاقة تتراقص على أفكار التذكر
والنسيان، على الانفتاح، وعلى الأسس المقيدة للوجود. تطلق "ذاكرة
ضبابية" العنان للرغبة في العودة إلى وقت يلقي فيه انسجام محيطنا تحيته
علينا، وفيه نستطيع، حتى وإن كانت الرؤى ضبابية، أن نتعرف على أصابعنا التي تلامس
آخر ما جرى من قبل وأول ما سيأتي".
يقول قنقر،
بأنه سيعود إلى فلسطين في يوم ما، ولكن من المؤكد بأنه يحملها في ذاكرته نبضات
حية، ترتسم أمامه، أينما حل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق