في عام 1997، تمكن الفنانان إسماعيل شموط (1930 - 2006)، وتمام الأكحل (1935-)، من زيارة فلسطين، بتأشيرة أوروبية، ووصل الزوجان، اللذين شكلا ثنائيا تشكيليا فلسطينيا، عرف على نطاق واسع، إلى اللد، مسقط راس إسماعيل، ويافا مسقط راس تمام، بعد 49 عاما من تشريدهما منهما، فيما عرف في الأدبيات العربية بالنكبة، والتي شكلت الموضوع الأبرز في أعمال الزوجين شموط، وجعلت منهما رمزين كلاسيكيين في تاريخ الحركة التشكيلية الفلسطينية.
وبعد عودتهما من الرحلة المؤثرة والمفجعة، إلى حيث يقيمان في العاصمة الأردنية عمان، انشغل إسماعيل وتمام، في العمل على جداريات توثق مسيرة الشعب الفلسطيني منذ النكبة حتى زمن أوسلو والسلطة الفلسطينية، وبعد أربع سنوات من العمل، أنجز الاثنان 19جدارية، (11 لإسماعيل و8 لتمام)، كانت موضوع معرض لهما افتتح في عمان، أواخر عام 2000، بعنوان (السيرة والمسيرة)، رافقه صدور كتاب عن هذه الجداريات تضمن شرحا ووصفا من الزوجين عن سيرتهما ومسيرة الشعب الفلسطيني.
واعتمادا على هذا الكتاب، أنجز ابنهما بلال إسماعيل شموط فيلمه (جداريات السيرة والمسيرة)، الذي افتتح عرضه في كل من رام الله وغزة، خلال احتفالية خاصة نظمتها اللجنة الاجتماعية الفلسطينية في أبو ظبي (البيارة)، في لفتة لا تخلو من بعد رمزي كما قال عمار الكردي البيارة، مشيرا إلى أن عرض الفيلم في فلسطين، هو باكورة أعمال اللجنة فيها، والتي تنظر إلى أن فلسطين واحدة، بدون تقسيمات.
وانطلاقا من رام الله وغزة، ستنظم سلسلة عروض للفيلم، ومدته 75 دقيقة، تمر عبر القدس، وتنتهي في يافا، مدينة تمام الأكحل التي طردت منها، ومن المتوقع أن تحضر الفنانة هذا العرض، بالطبع بدون شريكها إسماعيل، هذه المرة، الذي غادر الحياة قبل عامين.
يبدا الفيلم بلغة تقريرية مباشرة، عن طبيعته وهدفه، والتي ستكون أسلوبا يميز الفيلم، باستثناء بعض المقاطع الحميمة، التي توثق زيارة الثنائي إسماعيل وتمام، إلى مدينتيهما.
ويمكن تقسيم الفيلم، ببعض التجاوز، إلى ثلاثة أقسام، الأول يتحدث فيه إسماعيل بصوته عن تجربة اللجوء، والثاني تتحدث فيه تمام عن التشريد من يافا، والثالث رحلتهما المتأخرة 49 عاما، وغير المكتملة، لأنهما عادا كسائحين إلى مدينتيهما.
يقدم إسماعيل شموط تجربته بصوته، عبر نص محضر مسبقا، وبلغة عربية فصيحة، دون ن يظهر على الشاشة، متحدثا عن إجبار العصابات الصهيونية، سكان اللد على الرحيل، دون التطرق أبدا إلى ما عرف مبكرا من تآمر عربي، على تهجير أهالي مدينتي اللد والرملة، والذي كان جزءا هاما من الرواية الشفوية عن ذلك التطهير العرقي.
وعلى خلفية الجداريات التي أنجزها، يتحدث شموط، بلغة افتقدت إلى الحميمية، رغم التفاصيل المؤثرة التي يرويها، والتي كانت لتحدث وقعا مهما، لو اختار أسلوبا آخر لرواية الحكاية، غير الأسلوب الذي بدا مدرسيا وتقليديا إلى حد بعيد.
ويشير شموط، إلى وفاة شقيقه توفيق، ابن العامين، عطشا خلال رحلة اللجوء، من اللد، إلى مدينة رام الله، ويتحدث عن محاولته لتوفير المياه من بئر، وبعد أن تمكن من تعبئة القليل من الماء، وعاد به إلى عائلته، فوجيء بوصول أفراد العصابات الصهيونية، ووضع أحدهم المسدس على رأسه، وطلب من إفراغ ما يحمله من الماء على الأرض، والا فسيقتله.
ومن رام الله انطلقت عائلة شموط إلى مخيم خان يونس، حيث عمل إسماعيل مدرسا متطوعا في مدرسة المخيم، بالإضافة إلى عمله كبائع حلويات، في الشريط الساحلي، الذي اصبح يسمى قطاع غزة، والمغلق من كل الجهات، باستثناء القطار الذي يربطه بمصر، وهو وضع يشبه كثيرا ظروف القطاع في هذه الأثناء.
وتمكن إسماعيل، من تحقيق حلمه، والخروج من القطاع، لتعلم الفن، وليصبح أحد اشهر الفنانين التشكيليين الذين عبروا عن النكبة، ويعده بعض نقاد الفن، مؤسس الفن التشكيلي الفلسطيني الحديث.
أما تمام الأكحل فتتحدث عن تاريخ مدينة يافا، وممارسات الانتداب البريطاني، لتأسيس دولة إسرائيل، ودعم مدينة تل أبيب على حساب يافا، الميناء التاريخي عميق الجذور على شاطيء المتوسط.
وتقدم الأكحل روايتها للجوء، عبر البحر، حين لجا أهالي يافا إلى القوارب، التي لم تتمكن من الوصول بحمولتها إلى شواطيء لبنان، بسلام تام، فسقط الكثير من أهالي يافا في البحر، ولن يقدر لهم ابدا الخروج من أعماقه.
ولا تختلف اللغة التي تقدم فيها الأكحل، روايتها المؤثرة، كثيرا عن لغة زوجها إسماعيل، في حين يشترك الاثنان، في المشاهد التي تضمنها الفيلم لرحلتهما إلى اللد ويافا.
ورغم أن المشاهد صورت بكاميرا منزلية، ولم تكن ذو سوية عالية، إلا أنها الأكثر تأثيرا في الفيلم، ولو أن المخرج صنع فيلمه عن تلك الرحلة فقط، لربما أنجز فيلما مهما، في السينما التسجيلية الفلسطينية التي تشهد الان نشاطا لا مثيل له، مع الدعم الغربي غير المحدود للمؤسسات غير الحكومية، لإنتاج أفلام ضمن اجندة الممولين.
ويظهر إسماعيل وسط مدينة اللد قائلا بتأثر غير مفتعل "والله زمان يا لد"، ويقدم شرحا عن المنزل الذي ولد فيه، والمحلات التجارية التي كان يشتري منها، والساحة التي تم تجميع الأهالي فيها، تمهيدا لطردهم من مدينتهم، والتي كان الوصول اليها طفلا مع ابيه تثير الفرح لان ذلك يعني انه سيصاحب والده الى يافا.
ويعيد إسماعيل تشكيل جغرافيا المدينة كما عرفها، وقبل أن يطرا عليها كل هذا التغيير، خلال 49 عاما، من الغزوة الصهيونية قائلا "هنا كانت قهوة النصبة، وهناك بنك الأمة العربية، وهذه ساحة النواطير، وهذا بئر علي الزيبق، وتلك دار الحاج ياسين".
ويشير إلى مسجد اللد والكنيسة الملاصقة له قائلا بعفوية "هذه هي اللد وهذا هو شعارها".
وعلى عكس إسماعيل الذي حاول أن يكون متماسكا، وهو يتحدث عن اللد لأول مرة، وهو فيها، فان تمام الأكحل لم تستطع السيطرة على مشاعرها وهي تقف أمام المنزل الذي ولدت ولعب فيه، في يافا.
وتتذكر الأكحل، وهي تشهق بالبكاء، من خلال الباب الحديدي الذي يفصل بينها وبين البيت، الذي تعلوه كتابات عبرية، أشياء كثيرة، ومن بينها المكانين المفضلين لكلبي العائلة: ستوب، وجاك.
وفيما يشبه القطع غير المبرر، يعود المخرج، لصوتي إسماعيل وتمام، باللغة الفصحى، فيشعر المشاهد وكأنه مع فيلم أخر جديد، أو تقرير تلفزيوني.
ويختتم الفيلم، بتأكيد تمام الأكحل، على عدم تخليها عن حلم العودة وتقول "لدينا الحق في النضال على كل الأصعدة حتى عودتنا إلى فلسطين".
ويشعر المخرج بسعادة كبيرة لإنجازه الفيلم، وعرضه في فلسطين، وفي لقاء مع جمهوره الفلسطيني، نال الكثير من الثناء، واقتراحات بتوزيع الفيلم على المدارس، ليعرف الطلبة قصة النكبة واللجوء.
وقال بلال شموط صاحب فكرة الفيلم ومخرجه ومنتجه، بعد عرضه في بيت لحم، بان دوره في الفيلم، الذي اعتمد على كتاب (جداريات السيرة والمسيرة) هو ما وصفه "إعادة ترتيب الجمل"، ولا شك انه يدرك، أن إخراج فيلم يتجاوز كثيرا النيات الحسنة، والوفاء العائلي، وإعادة التركيب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق