تُشير عناوين
الروايات السبع التي كتبها الروائي الفلسطيني أسامة العيسة منذ 2010 دائماً إلى
اسم المكان، الأمر الذي لا ينطبق على مجموعاته القصصية منذ 1984، وبما يجعل هذه
العناوين مفاتيح مبنى سردي ضخم، يعمره الكاتب بالتاريخ والتخييل الخاصَّين برواية
العاديين لا المنتصرين.
يحاول العيسة ويجرب.
قد ينجح وقد يفشل، كما قال في ندوة "حديث الألِف" الثقافية التي
استضافتها "مكتبة ألف" التابعة لمجموعة "فضاءات ميديا"، مساء
أول أمس الأربعاء، بيد أنه سيواصل ما يسميها "الكتابة المنحازة" بدل
كلمة "الالتزام" الممقوتة كما خبرها بسبب إذعانها الأيديولوجي، بينما هو
يرى ناسه المهمشين الأقرب لتمثيلهم في المتن الروائي.
ولأن الكاتب هو صورته
المعلنة عبر الإصدارات المكتوبة، يخبرنا العيسة أن رواياته السبع منذ 14 عاماً
التي آخرها وأضخمها "سماء القدس السابعة"، هي فقط المنشورة، بينما لديه
روايات مخطوطة منذ منتصف الثمانينيات، لكنه لم ير ضرورة لنشرها حتى الآن،
"لأن النشر مسؤولية"، ولربما يقع ذلك مستقبلاً.
ولا نعرف المدار
التاريخي والمكاني والسردي لروايات كُتبت قبل قرابة الأربعين عاماً. نعرف في
المقابل أن الكاتب قرر في عام 2010 إصدار روايته الأولى "المسكوبية"،
وهي تحكي عن السجن المسمى "المسلخ"، والذي سيق إليه العيسة معتقلاً في
آذار/ مارس 1982.
وربما يجوز القول إنه
بعد نضوج خياره الروائي عرف كيف يستثمر زمنه الشخصي ووجوده اليومي الممض تحت
الاحتلال، الذي قال إن مجرّد أن تنام ليلة تحت أي احتلال إنما هو جريمة، وبات
بإمكانه أن يكابد السرد على طريقته، بأن يخلق روايته دون أن يضطر إلى دخول المكان
الفلسطيني من بوابة الروايات الكبرى.
يفسر العيسة، رداً
على سؤال لمديرة الندوة الروائية اللبنانية هالة كوثراني، بالقول إن لكل إنسان
قدسه، و"أنا لي قدسي"، لدى التعريج على رواية "سماء القدس
السابعة". وبهذا المعنى فهو ضد ما يسميه "تأميم الرواية"، إذ يطالب
فريق من الناس كتابة سردية مقابل سردية الاحتلال، والحال أن مكاناً كمدينة القدس
هو مكان نصّي وحكائي مبني على التثاقف منذ خمسة آلاف عام.
تظهر هذه المنمنمات
المشكّلة لوعي بعيد وما زال مستمراً بما يقدّم دليلاً على وجود الفلسطيني الحي
الذي ورث هويات وثنية ويهودية ومسيحية وإسلامية، يحاول المنتصرون محوها، بيد أن
مكر التاريخ يجعلهم دائماً يفشلون.
وُلد أسامة العيسة
عام 1963 في مخيم الدهيشة جنوبي شرق بيت لحم من أبويين لاجئين من قرية زكريا
الواقعة على الهضاب الوسطى بين القدس والخليل. وفي المخيم الواقع بين مثلّث المدن
المقدّسة: القدس وبيت لحم والخليل، بدأ الاشتباك مع الاحتلال مبكراً حيث غالبية
السكان من أعمار مختلفة تعرضوا على الأقل للاعتقال.
وقبل عام ونصف كانت
آخر تجربة اعتقال حين دهم الاحتلال بيته بحثاً عن ولده، ولم يجدوه، فاعتقلوه بدلاً
منه. ومن هذا الوجود للمكان الممحو أو المهدَّد بالمحو، جاءت كُتب العيسة في
الرواية والقصة القصيرة والبحث التاريخي، مسكونة بهاجس أنسنة المكان الذي قال إنك
لا تضمن أن يكون هو بعد قليل.
ولكي يعيش سرداً
مفتوحاً على الحياة المضيَّق عليها بشدة، ينبغي أن يحضر البشر ببساطة لأنهم مهددون
بالفناء الدموي أو الرمزي، حتى المحتلون لا يفضل أن يعطيهم صفة الأنوف المعقوفة
والآذان الطويلة، بل يريد بحسب وصفه "بشْرنة" كل واحد منهم، ومن ضمنهم
مدير السجن، الذي استشهد تحت إدارته معتقل فلسطيني، نُسي في بِركة الثلج.
لا بل رأى أن على
الكاتب اجتراح دروب للكتابة عن المناضل بوصفه إنساناً رغم صعوبة هذا في المجتمع
الفلسطيني، ملاحظاً أن الكتابة بعد المشروع الأوسلوي عرفت طبيعة فردية جداً
"ربما عدمية"، بينما بدأ المشهد الفلسطيني يتعافى منذ عشر سنوات عبر
روائيين جدد من خارج منظمة التحرير الفلسطينية وإطار سلطة لم يكن لديها مشروع
ثقافي أو اجتماعي، كما يصف. وهذه كتابة يراها في أبرز ملامحها مجتهدة في البحث
والحفر.
الحراك الروائي عنده
إذاً، يحتاج إلى معول معرفي. لقد تعلم ذلك مبكراً حين جاء الشاعر خليل زقطان (1928
- 1980) أصيل قريته المهجرة زكريا، وبات لاجئاً في مخيم الدهيشة فأسس فيه مدرسة،
ثم كبر الفتى مستلهماً أدبيات الأحزاب القومية واليسارية.
حين كان عمره 21 سنة
أصدر أول أعماله، وكانت مجموعة قصصية بعنوان "ما زلنا نحن الفقراء أقدر الناس
على العشق" عام 1984، وبعد عام القصة الطويلة "الحنّون الجبلي"، ثم
"انثيالات الحنين والأسى" عام 2004، وفي عام 2017 "رسول الإله إلى
الحبيبة".
وهي جميعها ذات
عناوين من الشعر الرومانسي لا يقلل من أهميتها، إلّا أن المسار الروائي منذ 2010
رسّخ حضور الكاتب خارج فلسطين، ليس بسبب حصوله على "جائزة الشيخ زايد"
عن روايته "مجانين بيت لحم" عام 2015، ودخوله القائمة القصيرة
لـ"الجائزة العالمية للرواية العربية" عن روايته "سماء القدس
السابعة" عام 2024، بل لأنه نجح في تشييد عمارة سردية قضى سنوات شاقة من
القراءة والكتابة اليومية، حتى حظيت بالاعتراف والتقدير.
أصدر الكاتب في عام
2010 رواية "المسكوبية"، ثم "مجانين بيت لحم" في 2013، و
"قبلة بيت لحم الأخيرة" في 2016، و "وردة أريحا في 2017، و"قط
بئر السبع" في 2017، و"جسر على نهر الأردن" في 2018، و"سماء
القدس السابعة" في 2023.
استمع جمهور الندوة
إلى مَقاطع من روايات العيسة قرأتها أماني بن خليفة، المذيعة في "التلفزيون
العربي"، واختتم الحوار بينه وبين المقدمة، ليجيب عن أسئلة الحضور، ومن ذلك
مطالبته بتوضيح عبارته التي تفيد بأنه لا يحب الروائيين الهواة. وكانت هذه مناسبة
للقول إن الهواة لديهم غرور مصحوب بالاستسهال، وكما يستدرك دائماً ويستعمل كثيراً
كلمة "ربما"، قال إنه هو "ربما ضحية استسهال ما".
غير أن الفكرة
الأساسية التي ينادي بها هي أن الأدب "صناعة ثقيلة"، ينبغي أن تكون
منتجاً جماعياً من الكاتب والمحرّر ومصمم الغلاف، لأنه ينبغي احترام القارئ وتطوير
ذائقته الأدبية والبصرية.
لكل رواية عنده
مغامرتها وشكلها ومنطقها الخاص، ولذلك يتساءل ما دامت هي على هذا النحو، لم لا
نكتب نصوصاً وينقحها آخرون ويقترحون ما يمكن شطبه أو إضافته. وفي المقابل لماذا
يترفّع الكتّاب عن تقوية لغتهم العربية إذا كانت ضعيفة عبر الانخراط في دروس
ودورات؟
للكاتب المعروف بأنه
مشّاء مثابر رأيٌ في الكتابة عن المكان الذي قد يكفي أن يكون سجناً ضيقاً أو أزقة
عليه أن يتأكد من معرفتها حتى يكتبها بأصالة. وهنا قال إنه أكثر من مرّة كان يعيد
مشاويره على قدميه حتى يعاين بمشاعره ما يمكن أن يجعل الكتابة تمثيلاً للمكان الذي
قد يتغير.
وهو يكتب في التاريخ
المهمّش لا يتركه دون بحث مضنٍ في المراجع التاريخية والأرشيفية والمرويات. وهو
بهذا لا يكتب رواية تاريخية، بل يرفض تسمية روايات جرجي زيدان بالتاريخية. البعض
مما كتب في هذا السياق، وهو قليل كما يلاحظ، يجوز تسميته بالرواية التسجيلية. أما التاريخ
فعنده دائماً هو وجهة نظر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق