تستحضر صور في أرشيف مكتبة الكونغرس، المستشفى الإيطالي في القدس، عام 1919، قبل سنوات طويلة من تغير وظيفته، وتعرض البلاد لأنواء سياسية عاصفة. حيث كان هذا المبنى أكثر من شاهد رمزي على تلك الأنواء الاقليمية والدولية، والتي تركت أثرا عنيفًا، يبدو ان لا فكاك منه على فلسطين.
عندما بدأت الإمبراطورية العثمانية تدخل في الأطوار الأخيرة من مرحلتها كـ «رجل أوروبا المريض»، كانت القوى العالمية آنذاك، والتي ربما هي نفسها في كل آن وزمان، توسع نفوذها في فلسطين.
وفي كثير من الأحيان، كان التنافس الدولي على الهيمنة الإقليمية في هذه المنطقة، أحد محركات النشاط التبشيري والسياسي في فلسطين، فالروس بنوا مجمعهم المعروف الان باسم (المسكوبية)، والذي اعتبر حينها دولة داخل دولة، وعززت زيارة الامبراطور غليوم عام 1898م، المصالح الألمانية في فلسطين، وبناء أشهر الكنائس اللوثرية ككنيسة الدباغة في القدس، وكنيسة الميلاد في بيت لحم، في حين ان لعاب بريطانيا كان يسيل، ولا تتمالك نفسها وهي تغذ الخطى ضد الألمان والأتراك في شبه جزيرة سيناء خلال الحرب العالمية الأولى.
إيطاليا أيضا لم تغب، وحضرت إلى القدس عام 1910م، حيث تم وضع حجر الأساس للمستشفى الإيطالي، وكنيسة، وتعثر العمل بعد عامين، بسبب نذر الحرب والعداء بين إيطاليا والعثمانيين الذين استولوا على ما أُنجز من المبنى، بعد ان شغلوا مكان إيطاليا في الحلف الثلاثي، وبعد الاحتلال البريطاني لفلسطين عام 1917م، تمكن الإيطاليون من استكمال ما بدأوه، ببناء المستشفى، المستوحى من عمارة عصر النهضة الفلورنسي، وافتتحوها عام 1919م، حيث التقط مصورو الكولنيالية الأميركية في القدس، أولى الصور لها، والتي لم تفقد أهميتها حتى الان.
أُديرت المستشفى، التي تقع في موقع استراتيجي خارج بلدة القدس القديمة، من قبل راهبات، وكان عدد الاسرة نحو 100 سرير، وتميزت ببرجها المطل على كافة أنحاء المدينة المقدسة، داخل وخارج الأسوار.
بعد سنوات، اندلعت حرب عالمية، ولكن المعادلات مختلفة، فإيطاليا وبريطانيا، هذه المرة في حالة حرب، وفي مرحلة العداء الجديدة، استولى البريطانيون على المستشفى، فأصبحت مقرا لسلاح الجو البريطاني.
ولان الحروب لا تتوقف في الاراضي المقدسة، فما كادت الحرب العالمية تتوقف، ونتج عنها عالم جديد، وتحالفات جديدة، حتى اندلعت حرب 1948م، حيث استخدمت العصابات الصهيونية المستشفى، التي تقع على مفترط طرق تؤدي الى باب الخليل وباب العمود وباب الجديد وأحياء يهودية، كموقع متقدم، لإطلاق النار على الفيلق الأردني في القدس القديمة، وتعرضت المستشفى لأضرار بالغة بسبب القصف المتبادل. وسقط شهداء في محاولات السيطرة عليها.
كان موقع المستشفى وعناصرها الجمالية كالبرج، سببا للاستخدام الذي يتناقض مع وظيفتها، وبدلا من ان تحمى وتكون مكانا امنا خلال الحرب، اصبحت في معمعان معركة اخرى حاسمة في تاريخ القدس، التي نتج عنها تقسيمها لأول مرة في تاريخها. ولا يوجد كالمستشفى بموقعها رمز على هذا التقسيم، حتى بعد سنوات من الاحتلال الحزيراني التي أعلنت بحكومة الاحتلال اثره عن «توحيد القدس». و»القدس الموحدة، عاصمة أبدية لإسرائيل».
موقع المستشفى، بالنسبة للعصابات الصهيونية، لم يتوقف عند استخدامه الحربي، فالان تشغله وزارة التربية والتعليم والثقافة في حكومة الاحتلال، التي تقول بانها اشترت المستشفى في عام 1963، ورغم هذا التحول الأخير والحاسم في وظيفة المبنى، إلا انه ما زال يعرف باسم المستشفى الإيطالي.
يحمل المبنى بصمات المهندس المعماري الايطالي انطونيو بارلوزي (26 أيلول 1884 - 14 كانون الأول 1960)، الذي ترك بصماته في عدد كبير من الكنائس والمباني في الاراضي المقدسة، التابعة خصوصا للفرنسيسكان، مثل: كنيسة كل الامم في الجثمانية، وكنيسة التجلي على جبل الزيتون، والقائمة تطول.
http://www.alhayat-j.com/newsite/details.php?opt=3&id=197499&cid=2860