أسامة العيسة*
1
نظر مِن شباك الغرفة الصغير، الذي لا يشبه أي شباك اخر، ويطلق عليه عبده ( الشّبَك)، وباغتني بسؤال: كيف هو وقع القدم على الاسفلت؟.
نظرت إليه مليًا، أنا الذي أدخل السجن لفترات قصيرة، وأخرج إلى شوارع الاسفلت، بينما كان ما زال ينظر إلى السماء التي تظهر مثل مكعبات حلوى البقلاوة بسبب الشبك الحديدي الذي يحول دون رؤيتها كاملة، وقلت له:
-الاسفلت ليس شيئًا يمكن للمرء أن ينتظر منه وقعًا ما...
قال:
- لا أريد أن أُصدقك، ٢٥ عامًا لم تلامس قدماي سوى أرضيات غرف السجن الباردة، بلاط، اسمنت، لم أعد أذكر عندما دفعني الجندي في الجيب، اخر ما لمسته قدماي، قبل أن أُغَيّب كل هذه السنوات..
نظر إلي وعدل جلسته على ( البرش):
- بربك ما هو ملمس الاسفلت..!؟.
-قد يكون ساخنًا ذا ملمس خشن، لا يخلف انطباعًا حميميًا، انه يذوب وتجرفه الأمطار، وله رائحة سيئة.
- أذكر فقط قوته الاندفاعية.. ما كاد الجندي يشدني مِن رقبتي حتى شعرت كأنني ورقة في مهب ريح لفظتني إلى أرضية الجيب الخشنة..
حاولت إحداث انقلابًا في حديثنا المثير للمواجع، ضحكت وأنا أقول له:
- الاسفلت هو ( الزفتة) مصدر نعتنا لكل ما هو ( زفت) ..!
ضحك وهو يقول:
-أشعر بان الشوق يقتلني إلى الاسفلت، ترى هل سأعرف السير عليه عندما يُفتح باب السجن؟، هل سيحتملني؟ هل سيطيرني؟ أم سيقذفني إلى أرضية جيب اخر؟.
2
لا يراها السجين إلا مكعبات، عندما ينظر من الشباك المشبك بحديد قوي، لا يرى سماءا كتلك التي يعرفها الناس، وعندما يخرج إلى ساحة الفورة (التريض)، تصطدم عيناه بسياج يحول دون رؤيته للسماء كاملة، هي فقط مكعبات. يظل يفور..ويفور في الساحة، ولا يرى سواها، تلك المكعبات.
لا يكل الأسير في محاولته لاختلاس النظر إلى السماء، عله يجدها كاملة، في ذهابه إلى عيادة السجن، وخلال اقتياده إلى زنزانة انفرادية لقضاء فترة عقوبة، وعندما يسرع بشوق إلى موعد زيارة الأهل. لكنه يجد نفسه محاصرًا بالشبك، مكعبات في كل مكان، لها القدرة على إحالة كل شيء إلى أجزاء ونتف، ومكعبات، مختلفة الأحجام، وليس السماء فقط. من خلال الشبك الضيق، يرى وجه الأم، وأنف الأخ، وأصابع الصغير التي تحاول اختراق شبك الزيارة، دون جدوى، وعيني الأب...كلها مكعبات، عالم من المكعبات.
عندما تُطفأ الأضواء، ويستكين السجين إلى برشه، يصوب عينيه إلى الشباك المشبك، فتصطدم عيناه بسماء المكعبات، يحاول تذكر السماء التي يعرفها، ويقسم بأنه عندما يخرج فسيحملق مطولا في السماء الرحبة التي عرفها ذات يوم ولم يتخيل في أسوأ كوابيسه، قدرة أحد، أي أحد على سخطها إلى مكعبات.
3
عندما فُتح باب السجن، وخرج عبده بعد ثلاثين عامًا، لم يحتمل وقع الاسفلت، أخذ يسير قفزًا، وكأن مسامير حادة تلسعه، ولم يتمكن من رؤية الناس، كما عرفهم يومًا ما، ولا وجد السماء هي السماء التي تركها، كانت مثل سماء السجن الطويل،مقسمة مثل حلوى البقلاوة، والناس كلهم، والأشياء كلها بقلاوة، ولكن دون حلاوة مذاقها.
لا يعرف أحد ما جرى بالضبط لعبده، لحظة قذفه الاسمنت إلى دير المجانين في (الدهيشة)، عندما كانت الصور تنعكس في ذهنه مكعبات، لم يكن يرى نفسه، وعندما فكر في صورته، وجهه، رأسه، أنفه، كحلوى البقلاوة، كان الاسفلت قد أكمل لعبته مع عبده، وكأنه لم يكتف بموات ثلاثين عامًا.
21-10-2011
* أديب وإعلامي من فلسطين/ القدس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق