أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الخميس، 18 سبتمبر 2025

الأمين العام يمشي مثلنا!





 


الأمين العام يمشي مثلنا!

عشت فتى، في عصر الأمناء العامين. والأمناء العامين المساعدين. والمكتب السياسيِّ، والمرشَّحين للمكتب السياسيِّ. واللجنة المركزيَّة، والمرشَّحين للجنة المركزيَّة. ولجنة الرقابة المركزيَّة، والمرشَّحين لها، والمركزيَّة الديمقراطيَّة بدون مرشحين، فهي مصابة برشحٍ دائم لا تَرشح منها نتفة ديمقراطيَّة، وسط هذا الكهنوت كلّه.

كان الأمين العام هو رئيس التحرير العام، ومن محاسن القدر أنَّه الصحفيّ العام، وأيضًا المصوِّر العام (أذكر أنَّه مسك كاميرا ليشرح لنا كيف يجب أن تستخدم في اجتماع للمراسلين والمحررين). كان ينشر في الصحيفة الأسبوعيَّة، مقالته على نصف صفحة من حجم التابلويد.

أردت أن أفهم، من صديقي الأكبر سنًا وفهمًا، كيف يكون الأمين العام أهم صحفي عربي؟ كما قيل لنا، وأهم من هيكل مثلًا. الذي فتنني، في تلك الفترة، بكتابه أحاديث في آسيا، ثم خريف الغضب.

أقنعني صديقي أنَّ الأمين العام صاحب نظرية متكاملة ورؤية واضحة غير متذبذبة، ومعرفة بموازين القوى المحليَّة والإقليميَّة، تجعل تحليله دقيقًا وثاقبًا، وليس مثقوبًا مثل هيكل ذو النزوع الإمبرياليِّ الأميركيِّ.

لم ألتق ذلك الصديق من زمن، ولم يخطر لي أنَّ ما قاله ليس سوى بذور، ستنمو لديه، فيصبح صحفيًا مرتزقًا، طفيليًا على موائد يمينيَّة ويساريَّة، كما أخبرني أكثر من شخص. مقدمات تؤدي إلى نتائج.

اقتنعت، وعدت غير مقتنع، وكأنَّني بين البينين. مقالة الأمين العام التي لا أفهمها، واستمتاعي أكثر بكثير، بهيكل وكتاب محمد عودة دفاعًا عن الناصريَّة وكتابات سلامة موسى وخالد محمد خالد وفتحي عبد الفتاح، عن تجربة اليمن الديمقراطيَّة، حتى الآن ما زالت الفقرة الأولى من الكتاب ضاربة في الذاكرة، عندما رسم تلويحة عبد الفتاح إسماعيل وابتسامته الطبقيَّة. كذلك دهشت بعمق سيِّد قطب بسهله الممتنع كأنَّه ساحر. أظن أنَّ هذا المفكِّر المتفرِّد، ظلم من محبيه وحاقديه.

شهدت على بداية طوشة، كان من الصعب معرفة نهايتها، في سجن رام الله، ربيع 1981م، وأن أقرا لاز الطاهر وطَّار. روى ناشط من الجبهة الشعبيَّة، مسلحًا بقوته كحاصل على حزامٍ أسود في الكراتية، أنَّه رأى الأمين العام يحتسي في منتزه رام الله، ما أثار غضب مهووس في الأمين العام، فرد أنَّ الأمين العام الخاص بصاحب الحزام الأسود، يحتسي. فاستشاط صاحب الحزام، وهدَّد، وعندما أدرك المهووس خطورة الموقف، خفَّف لهجته: عادي أن يحتسي أمينكم العام فهو مسيحي. لم ينجح في تخفيف التوتر إلَّا تدخل عقلاء، أذكر منهم مُنظِّر الحركة الطلابية وليد سالم. حالوا دون وقوع اعتداء.

لكن اعتداءً وقع فعلًا، من فتحاويِّين، هذه المرَّة خارج السجن، وعلى الأمين العام. ما استتبع حشدًا، كنت من المحشودين أمام منزل الأمين العام في رام الله. حضر أبو علي شاهين، وأكرم هنية، وأعلن شاهين، أنَّ دار الأمين العام قلعة من قلاع الثورة الفلسطينيَّة، أو شيئًا من هذا المنوال. وليس مثل هذا الاعتراف يمكن أن يكون ارضائيًا للمهووسين والأقل هوسًا.

لم تكن فتح فقط قادرة على الاعتداء، فيمكن لمهووسي الأمين العام تنفيذ الاعتداءات، أو التهديد بها، عندما تزعرن المهووسون على نشطاء الجبهة الديمقراطيَّة المنافسين على العمل النقابيِّ، الذي انتهى كما فهمت بعد سنوات، بتنازل الأمين العام عنه بقضه وقضيضه لعرفات.

مُغصت، عندما روى لي مهووس الأمين العام في سجن رام الله، في زيارتي الأخيرة لعمَّان هذا العام، كيف أنَّ القائد النقابيِّ طلب منه الاعتداء على الناشط محمد اللبدي، وكان مستعدًا لتنفيذ أي أمر، لكنه يشعر بارتياح أن ذلك لم يحدث.

سيتنقَّل القائد النقابي بين الفصائل والأحزاب، مارقًا، ويتبوأ منصبًا رقابيًا أوسلويًا، يمارس من خلاله عقده.

في عام 1994م، متسكعًا في منارة رام الله، يناديني يوسف الجعبة، بائع الصحف والقائدِ اليساريِّ الدمث. اعتقدت أنَّه سيخبرني عن كتاب جديد. رأيته فاردًا صحيفة على مكتبه، ويقرأ لي بابتسامته الخجولة، من مقالة رئيس التحرير الجديد لصحيفة الأمين العام، فيها ما يشبه الاعتذار عن خطها التحريريِّ وأشياء أخرى لا أذكرها. قلت لم أقرأ الصحيفة منذ زمن، وأجهل إذا كانت ما زالت تصدر. واصل القراءة ضاحكًا، فضحكت مجاملًا.

أقرأ صدفة، ما دونه كاتبنا الكبير محمود شقير، صاحب المقالة البريسترويكية، بعد توليه رئاسة التحرير، عن الأمين العام، فأعرف أنَّه كان أيضًا المثقَّف العام والمنظِّر العام والمفكِّر العام، لكنَّه، لحسن الحظ، يمشي مثلنا، وإن كان ذلك فوق الثلج:

"...ونحن نخرج للتمشي في شوارع براغ وقد غطَّاها الثلج بعد ظهر أحد الأيَّام. كنا خمسة أو ستة من أعضاء الحزب، نمشي فوق الثلج ومعنا الأمين العام، يمشي في حذر خوفًا من السقوط، ويتصرف مثل أي شخص عادي لا تكبله القوالب ولا الألقاب ولا المظاهر الشكلية التي تحجب الجوهر الإنساني في الكثير من الحالات".

شهدت على بؤس الأمين العام، عندما أصبح وزيرًا أوسلويًا، ولكن ليس عامًا، فرئيس الحكومة العام هو رمز كبير، حصّل دستة من المناصب، كالقائد العام، ورئيس اللجنة التنفيذيَّة، ورئيس دولة فلسطين. عندما تصل نشرة وكالة وفا، يشطب المحررون، فورا، أوَّل أربعة أو خمسة أسطر، لأنها تحمل مناصب ومسميات الرئيس.

رأيت الأمين العام، خلال غضب أعضاء المجلس التشريعيِّ اليمينيين الفتحاويين، على الحكومة بسبب كتم الحريات والاعتقال السياسي والقتل تحت التعذيب. حتَّى عرفات أبدى غضبه. يبدو أن تلك النهاية كلاسيكيَّة، بالنسبة للأمناء العامين في بلادنا، وبلاد غيرنا.

كيف ينتهي الأمناء؟ لن ننسى على الأقل ما حدث للأمين العام بشَّار. قيادة حزبه القطريَّة أو القوميَّة، هنأت الشعب السوري بغوره. لكنَّني لا أعرف مثلًا، مآل عبد الله الأحمر الذي تبوأ الأمانة العامة المساعدة ويا لها من أمانة. لم تقتصر الأمانات المؤبدة على الأحزاب، ولكن على الاتحادات والنقابات والجمعيَّات. التقيت مرَّة الفنَّان الراحل غسَّان مطر، وهو في طريقه لمؤتمر فتح السادس، وكان قد تخضرم في أمانة اتحاد الفنانين الفلسطينيِّين، بباروكة سوداء، وسلسلة ذهبية، وعطر فوَّاح، بذلت حهدًا لأكتم ضحكة، وهو يتحدَّث عن النضال. شاهدت له قبل أشهر سلسة لقاءات سياسيِّة مرئيّة، مع محطَّة مصريّة، تبيِّن أنَّه كان سادتيًا كامب ديفيديًا فخورًا، ينسب لنفسه أدوارًا، غير سينمائيِّة، أظنها غير مشرِّفة.

عشنا لنرى أمناءً، ولكن ليسوا عامين، وإنما عاميِّين، يطأون الموتَ بالموتِ، ويصعدون خفافًا.

لا تسألوني عن اسم الأمين العام، فأنا لم أعد أذكر، ولكن لا شك يبدأ بأبو، قد يكون أبو الروف، أو أبو جهاد أحمد، أو أبو الوليد خالد، أو أبو جهاد طلال، أو ياسر أبو ياسر، أو أي أبو!

الصورة: عود الريَّ على شاطىء الطنطورة.

#محمود_شقير

#غسان_مطر

#أسامة_العيسة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق