في 9 تشرين الثاني
1927م، نشرت صحيفة صوت الشعب، خبرًا عن عزم أربعين عائلة مسلمة من شفا عمرو،
اعتناق الديانة المسيحية.
ما يلفت في الخبر
المنشور، في الصحيفة، التي تصدر في بيت لحم، ويملكها ويحررها مسيحيون، هو التحذير
من "عاقبة هذا العمل" والخشية من أن يستفحل "جيش التبشير ويفصم عرى الإخاء
القومي"، ولفتت الصحيفة، نظر المجلس الإسلامي الأعلى "إلى هذا الخطر
العظيم".
لم يكن هذا النشر إلا
فاتحة عواصف داخل المجلس الإسلامي الأعلى في القدس وشمال فلسطين، انتهت بإصلاحات
اتخذها المجلس وأهمها إعفاء مؤذن مسجد شفا عمرو "الذي يبيع ماء المسجد"
من منصبه، وتعيين مؤذن حسن الصوت (رشوة صغيرة لمسلمي شفا عمرو!). ومطالبات بتوزيع
أراض، على الأغلب أن المجلس لم يستجب لها، رغم أنها شُفعت بتوزيع الانتداب
البريطاني ألف دونم على المبشرين.
من يـتأمل ملف القضية
في اضبارة تحمل ترويسة المجلس الإسلامي الأعلى في أرشيف دولة الاحتلال، يمكن أن
يلحظ مفهوم هشاشة "الإخاء القومي"، وضعف مناعة المجتمع الفلسطيني، وتطوره
العلماني كما يتوجب ويناسب أي نوع من القومية، فالقوميات هي بنات العلمانية، وإيمانه
بحرية أفراده الدينية، والتلويح بتغيير الدين (أو الطائفة كما في حالة الطوائف
المسيحية) لتحقيق مكاسب، والخوف من التبشير، باعتباره شر أجنبي استعماري.
انتهى الموضوع، حسب
الوثائق، بعودة المنشقين، إلى "الحظيرة"، ومطالبة "صاحب السماحة
رئيس المجلس الإسلامي الأعلى المعظم" بصرف خمس وعشرين جنيها ونصف، هي ما صرفه
أحدهم على القضية. لن نعرف أبدا إذا صرفت فعلا للمسكين، والحفظ في دوسيه خاصة،
ويبدو أن أحدهم تنبه، أن كلمة دوسيه تحيل إلى لغة المبشرين الأشرار، فشطبها وكتب
بدلها إِضبارة.
سن الانتداب البريطاني
الغاشم قانونًا مدنيًا متطورًا، لتنظيم انتقال الأفراد بين الأديان والطوائف عام
1927، متقدمًا الحركة الوطنية، التي لم تكن على مستوى التحدي الحضاري، فخلت من
مشروع ثقافي-حضاري. لا ثورات بدون مرجعيات ثقافية تقدمية-عصرية.
ما زال ما أثارته تلك
القضية محفوظًا في الأضابير؛ الكذب والتدليس والشعارات واستنهاض المشاعر الدفينة،
وحتى "الإخاء القومي" لم يعد مفهومًا متداولًا، وحلّت مكانه أنواع أخرى
من الاخاءات ذات الطابع الديني والحزبي، وهي اخاءات مشكوك في صدقيتها.
أمَّا صاحب السماحة
المعظم، فسيستمرىء لعبة الدين والسياسة، وسيحشد مسلمي العالم خلف مولانا
"هتلر" رضي الله عنه، وتلك حكاية أخرى!
*الشكر الدائم لماهر
مناصرة، لخدماته الأرشيفية.