أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الاثنين، 19 ديسمبر 2022

عن مجانين بيت لحم/ردينة ياسين


كل مجنون له طريقة من طرق الجنون أو لوثة عقل كلوثة الدهيشة وربَّما سكانها أو ديرها ربما أيضا لوثة أكبر من التخيل نفسه، لا تحتاج إلى الدخول للدير فأنت من أصحابه ولو كنت خارجه.

هنا وقبل البدء تجد الجنون مختلف فهم مجانين محترمون طيبون مثقفون لا يحاولون إثارة الفتن لأنهم عباقرة قد جنوا من كثر العبقرية لذلك عمد الكاتب الفلسطيني ابن مدينة بيت لحم إلى وضعهم داخل صفحات كتاب اسماه مجانين بيت لحم، لتفوز الرواية بجائزة الشيخ زايد 2015.

عندما قرأت رواية قبلة بيت لحم احترت كيف أصنفها، رواية، قصيدة، تاريخ مدينة، أمَّا تباريح جندي فقد أدخلني في صدمة حضارية جعلني أتساءل من الذي أنقذ الأخر، لكن هنا مع هذه اللوثة التي تصيب القارئ جعلتني أبحث عن رسالة الكاتب في سرد تاريخ بلد وجنونه وأطرح السؤال التالي:

هل نحن قوم مجانين؟ وبعبارة أخرى أفضل هل نحن فعلًا مجتمع نعاني جميعنا من الجنون بدرجات؟ أم أننا نهرب إلى الجنون لعجزنا عن مواجهة مشكلات الحياة وتقسيماتها بين ابن المخيم وابن المدينة وابن القرية، ومقدار الجنون المطلوب لننسى نحن الذين نعيش في هذا العالم الملي بخيبات الجنون.

# دهيشة وداهش ومدهوش:

ربما يتساءل أي قارئ ما هذا الهبل لكن هو فعلًا حقيقة، فالدهيشة هي مخيم اللاجئين أحد مخيمات اللجوء في بيت لحم بلد الكاتب فهو ابن مخيم، أمَّا المدهوش فهو موقع الدير كما ذكر الكاتب لكنَّه في الحقيقة هو مستشفى الأمراض العقلية، الذي حوى المجانين أو العقلاء فقد صعب علينا الكاتب التمييز بينهما. فنحن نتحدَّث ونطالب بإرسال العقلاء للدهيشة عندما نختلف معهم، أمَّا السيَّد داهش فهو العاقل الحقيقي، فهو شخص سكن في أحد المنازل القديمة على شارع القدس الخليل، واشتهر فلسطينياً وعربياً وعالمياً باسم "داهش بك”، صاحب الطريقة الداهشية، وهو سليم موسى العشّي الذي ولد في بيت لحم العام 1909، وعاش في بيروت حيث اكتملت أسطورته؛ وتظهر اللوثة بشكل واضح عن طريق صانعها صديق الصحافي عمّار الجوري، فإبراهيم لاما الذي قرَّر إنهاء حياته على طريق مصائر أبطال أفلام التراجيديا، وذلك بإطلاق النَّار على  نفسه، بعد قتل مطلّقته بالمسدس نفسه اثر فشله في ردّها إليه وغيرته المجنونة عليها، ويعزو الكاتب ذلك إلى أنه وفي هذه الرياح يا عُجيل ما إن تنتهي احتفالات عيد الميلاد حتى يدور العرض الساخر الجنوني، وذلك خلال طقس غسل كنيسة المهد، فيخرج رهبان الطوائف المختلفة بالمكانس لتنظيف الكنيسة، ولكن سرعان ما تتحوّل المكانس أسلحة، ورواق الكنيسة ساحة حرب، فتغطّي الدماء وجوه الرهبان، في مكان يعتبره مسيحيو العالم الأقدس ويجلّه أيضاً مسلمو العالم.

#كتاب المجانين:

في صفحات الكتاب حرص العيسة، على إخفاء مجانينه العقلاء والمجانين أنفسهم بين دفتي كتاب فلن نتحدث هنا عن المشفى لكن سنتحدَّث عن المخيم الذي يعصف بالجنون من فقر سكانه وحياتهم الصعبة ومصاريف المجاري والأوضاع غير الجيدة، فأنت تعرف ولا تعرف تسأل أو لا تسأل، تجيب على أسئلتك لكنك لا تجيب على أي سؤال لأن الكاتب قد أدخلك وأنت لا تدري ضمن لوثته.

يوجد هنا أسفار كثيرة لكن ما يهمنا هما كتاب الراوي وكتاب الأشخاص، ففي كتاب  الراوي يتحدَّث الكاتب عبر تاريخ المنطقة التاريخية، حيث يغطي هذا الجنون فترة مهمة من تاريخ فلسطين من الفترة العثمانية إلى الاستعمار البريطاني إلى وضع البلاد القائم لا يهم لأنك تتحدَّث عن تاريخ أقل صفة له انه تاريخ مجنون.

والجنون هنا ليس جنونًا نفسيًا أو عصبيًا لا يحتاج إلى دواء أو مضاد للاكتئاب، لأنَّه بحث مطوَّل في مسارب النفس البشرية عبر طبيعة الحياة وأسلوبها ضمن رقعة ضيقة، فهو يعود بنا إلى ذكريات المكان والزمان، عبر شخصيات مجنونة أو نصف لا يهم، ولكنَّه لا يستغرق في التحليل، حتى كأنَّه لا يرى في الجنون مرضًا. بل استجابة طبيعية لتاريخ هذه المنطقة لأننا أمام ظاهرة عجيل ابن القدس عميد المجانين وملكهم، الذي أخذنا إلى جزءٍ من هذه المتاهة. فهذا المكان المجنون ولد من بيئة الحرب من خلال زيارة، قام بها إمبراطور ألماني بني ميتم للأرمن ليتنقل بن أزمنة الاحتلال والاستعمار، ليعلن استقراره الآن لكنه ناقما معارضا لأنه تعب من عملية سرد تفاصيل المكان.

عند الحديث عن كتاب الأشخاص نجد أنفسنا مع قصص وقصص، لكن طابعها الحزن فهي لأشخاص عقلاء أصابتهم لوثة الجنون لا تعرف من هو الراوي أو المروي عنه في هذا القسم.

هي حكايات من الصعوبة بمكان وإن كانت أحداثها بسيطة لا تذكر لكنَّها كانت كافية لإدخال أصحابها هنا، فلأننا لا نستطيع الحديث عن مقيمي الدير وأمَّا الأشخاص الذين يقيمون خارجه وإن كانوا من سكانه، لنستطيع جلب الصراع الذي أراد الكاتب إخبارنا عنه في روايته أو كتابه وهو صراع القومية واللجوء وصراع التأقلم على واقع فرض على لاجئ، لأنه أخذنا إلى وعيتا المدفون فاستطعنا الدخول إلى الشخصيات وفهم مضمونها.

عندما تصف حياة مجنون وظروفه كما فعل الكاتب فأنت تطلب من القارئ أن يعيد حساباته ليفهم الواقع بكافة أطيافه؛ السياسي والمعيشي والاجتماعي، بين شوارع المخيم وأزقتها لكي يبقي لنا شعلة بسيطة من الأمل لإمكانية التغيير إن حصل يبقي جذوة الأمل فلا يستسلم لكل هذا الظلم، لا يستسلم ولا يستمع لنصيحة صديقه المجنون بدخول دير المجانين فالكتابة مصير وعلى هذه الأرض-فلسطين ما يستحق الحياة والأمل!

وأخيرا: لكن عند القراءة في المجانين أو " مجانين بيت لحم" لا تعرف هل تروي جنون بلد أو مكان محدد جنون بشر كغازي الصامت الذي عاد إلى صمته بعد كلمتين في عمان "أنا أعرف من أنت" أو يوسف المثقف الذي جن بسبب الضرب على رأسه عندما تم اعتقاله من قبل اليهود أو عجيل وما أدراك من هو عجيك أن تدخل تقترب من كل شخصية ربما اكتشفت شيئا في عالم أقل صفة له انه مجنون. أو كما قال  يوسف علان "الجنون أسلوب حياة, ليس كل المجانين مجانين وليس كل العقلاء عقلاء".

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق