تُظهر الصور المبكرة
للقدس في بداية القرن العشرين، سبيل ماء لافت في باب الخليل، بوابة المدينة
المنفتحة إلى الغرب، والجنوب، والتي تسمى أيضًا باب يافا.
بجوار ما يعرف باسم
الثغرة التي فتحتها السلطات العثمانية لمرور موكب الإمبراطور الألماني غليوم عام
1898م، الذي سماه ناس فلسطين آنذاك (أبو غليون)، يقع السبيل الذي افتتح في الفاتح
من أيلول 1900م، والمناسبة اليوبيل الفضي للسلطان عبد الحميد.
إذن نحن أمام سبيل تذكاري،
أكثر من كونه وضع لغايات عملية، ولم تجد نخب القدس آنذاك، أفضل من سبيل ماء تكريما
للسلطان، ولا يغيب رمز الماء عن مناسبة اليوبيل السلطاني.
وبالنسبة للباحث
الفرنسي في تاريخ القدس فانسان لومير، فانه جعل من مناسبة بناء السبيل دليلاً على أطروحته
بشأن إعلاء قيمة الإدارة العثمانية في القدس في تلك الحقبة، في مواجهة من قلل من شأنها،
وهو ما حاول إثباته في كتابه: القدس 1900 زمن التعايش والتحولات، دار الفارابي بيروت 2015، ترجمة غازي برو.
يكتب لومير: "لقياس مدى أهمية ما قام به
المتصرفون العثمانيون، بالملموس، في المدينة المقدسة، ولا سيما استقبال السكان
لهم، فلنتوقف عند حدث معين، يقع عند تقاطع التاريخ المحلي اليومي للقدس مع
"التاريخ العظيم" للسلطنة: افتتاح سبيل عمومي تذكاري في المنطقة
المتاخمة مباشرة للبلدة القديمة، في الأول من أيلول / سبتمبر 1900. كان عام 1900
موعداً مهماً في تاريخ السلطنة العثمانية، ويؤشر إلى نوع من ذروة أخيرة بلغتها قوة
السلطنة. في تلك السنة، في الفاتح من أيلول / سبتمبر على وجه التحديد، احتفل
السلطان عبد الحميد الثاني بمرور الخمس وعشرين سنة الأولى من عهده وزينت الرايات
العثمانية جميع مدن السلطنة. وتجمع الشهادات على الإشارة إلى أن هذا اليوبيل
السلطاني، بعيدًا عن كونه مجرد احتفال رسمي، يعبر عن مشاركة مجمل السكان في
الاحتفالات الجماعية، لا سيما في القدس".
و: "من جانبه،
يغتنم السلطان الفرصة للإعراب عن الاهتمام الذي يوليه للمدينة المقدسة، بدفعه إلى
إطلاق عدد من المشاريع المتعلقة بالمصلحة العامة. ومن دون استبعاد الطابع الرسمي
لهذه الاحتفالات، يمكن للمرء أن يميل إلى رؤية ما تمثله من علاقة بين سكان المدينة
المقدسة، وعاصمة السلطنة عند منعطف القرنين التاسع عشر والعشرين. إذاً، نظمت
احتفالات الفاتح من أيلول / سبتمبر 1900 حول سبيل تذكاري أنشئ وافتتح في هذه
المناسبة أمام باب يافا (أو باب الخليل)، الواقع عند الحائط الغربي من المدينة
القديمة. كان إنشاء السبيل الجديد وإعادة تخطيط محيط باب يافا عملية تنظيم مدني
دقيقة، نظراً لأنه معبر جميع الحجاج والسياح إلى المدينة القديمة. إنها بمثابة
"واجهة" القدس في نظر العالم".
ويربط لومير بين إنشاء
السبيل وزيارة الإمبراطور الألماني قبل عامين من ذلك: "كان مشروع إنشاء
السبيل الجديد ميسراً بفضل الأعمال المنفذة لسنتين خلتا بمناسبة زيارة القيصر
الألماني فلهلم الثاني، وقد رافقت أعمال فتح ثغرة في الجدار للسماح بمرور عربته
عملية ردم الخنادق عند باب يافا، ما سمح بالقيام أخيراً بإعادة تنظيم كل القطاع.
ففي آب / أغسطس 1900، أرسل متصرف القدس محمد توفيق بك برقية إلى وزارة الداخلية
(نظارة الداخلية) يبلغها فيها بحسن سير الأشغال وتقدمها وبوضع الحجر الأساس
للسبيل. وذكر بصورة عرضية أن ذلك جاء مبادرةً من السكان أنفسهم بمناسبة اليوبيل
السلطاني".
كتب محمد توفيق بك
بهذا الشأن إن: "الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لاعتلاء موئل الخلافة عرش
العثمانيين، عيد يبهج جميع رعاياه. للاحتفال بهذا الحدث، قرر جميع سكان المدينة،
من جميع الفئات ومن جميع الأمم، إنشاء سبيل وبركة عند أهم ساحة في القدس الشريف،
باب الخليل (باب يافا). وسوف يوضع على قوصرة
المبنى زينة تمثلت بزخرفة طغراء السلطان العالي".
في اليوم ذاته، أكدت
الصحيفة العبرية هاتسيفي أن المشروع ممول بالفعل: "بواسطة اكتتاب عمومي
مقداره ألف ليرة تركية".
يرى لومير: "هذه
المبادرة الصادرة عن سكان القدس على اختلاف طوائفهم، حتى وإن قامت بلا شك بتشجيع
من المتصرف الجريء محمد توفيق بك، تشير على أية حال إلى أن السكان ليسوا غير
مبالين بالأفق العثماني الذي يتحركون من خلاله، ويشاركون عن طيب خاطر بالاحتفالات
السلطانية. تجدر الإشارة إلى أن المبلغ الذي جمع عن طريق هذا الاكتتاب العام كان
مهماً: 1000 ليرة تركية تساوي حقيقة
100000 قرش، أي ما يعادل 55 مرة الراتب السنوي لمدرس صفوف ابتدائية إذا ما استخدم
ذلك للمقارنة".
قد لا يكون كل ما ذهب
إليه لومير صحيحًا، ولا شك ان هناك مبالغة في وصف مشاركة الناس في الاكتتاب بأنها
جرت عن "طيب خاطر" فالأمور لم تكن تحدث، وما زالت لا تحدث في أنظمة
الشرق بهذه الطريقة، وإنما بالأمر، والعصا والجزرة.
ويذهب لومير أبعد من
ذلك: "إن هذا السبيل التذكاري يجسد إذاً ولاء الشعب للسلطان والصلة الفريدة
التي تربط عاصمة السلطنة بالمدينة المقدسة".
ويقتبس لومير ما كتبه
الباحث الألماني كونراد شيك الذي عاش في القدس منذ العام 1846 حتى وفاته 1901م، عن
ما شهده خلال الاحتفال بتدشين السبيل:
"في القدس، شُيد سبيل في الباحة التي أنشئت قبل عامين عند باب
الخليل جراء ردم الخنادق المحيطة بالقلعة. عندما نصل إلى المدينة من الجهة
الغربية، نرى هذا السبيل وجاهيًا، نصب ذو قبة مذهبة متألقة، يستند إلى أسوار
القلعة الرمادية. وفي الخارج، نرى أربعة أعمدة من الحجر الأحمر، ناتئة مقلمة،
تعلوها القبة وعلى قمتها الهلال المذهب. والبركة التي تحتوي على الماء مجهزة باثني
عشر صنبورًا، ربطت بها أكواب نحاسية للشرب. ويبلغ قطر المبنى نحو 8-9 أقدام (2،5م)
وارتفاعه الإجمالي ما يقرب من 25 قدماً (7 أمتار). وقد بني بأحجار حمر وبيض
متناوبة".
وفي نشرة صندوق
استكشاف فلسطين، برقية كونراد شيك، كما فهمها لومير، موضحة بصورة تسمح برؤية هذه
الهندسة المعمارية التي تنتسب خير انتساب إلى الهندسة العثمانية بالنظر إلى العديد
من التفاصيل المعبرة: الحجر الأحمر والأبيض واسم السلطان المكتوب بالخط يتصدر
الواجهة، والقبة يعلوها الهلال.
قد يكون هذا السبيل
واحدًا من الرموز القليلة التي تشهد على نهاية حقبة القدس العثمانية، وما شهده باب
الخليل من أعمال خلالها، والذي يشكل دائمًا إغراءًا للقوى التي تتوالى على القدس
لاختبار وجودها بإجراء تغييرات عليه أو في محيطه، وهذا ما فعلته السلطة التي أعقبت
العثمانيين، الاحتلال البريطاني، الذي سارع لإزالة السبيل، وكذلك الساعة التي وضعت
على باب الخليل بمناسبة اليوبيل السلطاني.
شهد باب الخليل
تغيرات أخرى حتى أصبح خط تماس في حرب 1948م، وما حوله منطقة حرام بين المتقاتلين،
وبنت السلطات الأردنية جدارًا أمنيًا أغلق الثغرة التي دخل منها ذات يوم في نهاية القرن
التاسع عشر الإمبراطور الألماني، وعندما انتصرت دولة الاحتلال الإسرائيلي في
حزيران 1967، سارعت لهدمه، ولتبدأ هي الأخرى اختبارها في باب الخليل، بأعمال لم
تنتهِ حتى الآن.
يمر النَّاس من مختلف
الألوان والأعراق، من باب الخليل، تستوقفهم معالم عديدة، ولكن على الأرجح لا
يذكرون سبيل القدس الضائع، الذي بني في مدينة كانت تعيش مفترق طرق في تاريخها و"زمن
التعايش والتحولات" حسب تعبير لومير، وكأنها لا تعلم بان كل أيامها مفترقات
وتحولات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق