وجه باحث فلسطيني، نقدا شديدا لفصائل العمل الوطني الفلسطيني، في دراسة له عن انتفاضة الأقصى اختار لها عنوانا دالا وهو " بانوراما الانتفاضة.. الحصاد المر " . واعتبر الباحث حيدر عوض الله انه توجد " حاجة ماسة إلى كسر التقليد الفلسطيني الذي تحول إلى عادة في الإحجام عن إعمال العقل ثم النقد في مراجعة التجربة الكفاحية للشعب الفلسطيني. ويبدو أن ليس في وارد الحركة الوطنية الفلسطينية مجدداً التصدي النقدي لتجربة الانتفاضة باعتبار أن فعل النقد في العرف النضالي الفلسطيني ترفٌ ما بعده ترف لقوى منغمسة حتى الأذنين في تأمل انكساراتها وتعثرها المستمر كقدر ميتافيزيقي يمتحن قدرتها المتجددة على إعادة إنتاج خيباتها ونكباتها ".ويضيف "وبهذا المنطق، يبدو الهدف لاشيء والتضحيات كل شيء! فلم يحدث أن رفعت أي حركة وطنية أدواتها النضالية إلى مستوى التقديس، وجعلت من نتائج استخدامها وحصادها أمراً هامشياً إلى هذه الدرجة، كما لم يحدث أن تحركت أية حركة سياسية تبغي الظفر بأهدافها بتجرد وتصادم فج مع شروط انتصارها، مع عناصر قوتها؛ أي مع محيط التعاطف والمساندة الدولية لها وكأن هناك معيناً لا ينضب من طاقة التدمير الذاتي، ولم نسمع عن مهمة كفاحية غصت بأهداف متناقضة وبالجملة استطاعت أن تتحقق؛ أي أهداف الانتفاضة، وكأن هناك رغبة في الاحتفاء بعظمة الخيبة ودرامية الانكسار؟!".
وتساءل عوض الله "فأية حركة وطنية تصر على المضي في معادلة لسان حالها يقول: كلما زادت الخسائر والتضحيات تآكلت النتائج وشحت الثمار؟!".
وانتقد بشدة ما اسماها العقلية التي أدت "إلى تعظيم المخاطر المحدقة بالأهداف الوطنية، وهي مخاطر حقيقية وواقعية. وإن كان من باب الهذر الذي لا طائل من ورائه إعادة التذكير بالأصوات العقلانية المتنوعة والمتعددة التي انطلقت محذرة من "الفهلوة" الرسمية في إدارة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، ومن مفهوم "الفوضى" المسيطر عليها، ومخاطر الانزلاق إلى تكتيكات وأساليب نضالية متعارضة بشكل كلي مع الواقع الجغرافي والسياسي للأراضي الفلسطينية المحتلة، ومع طبيعة الاحتلال الاستيطاني وإمكانياته العظيمة العسكرية والإعلامية، وعلاقاته الدولية، واستحالة التقدم باتجاه تحقيق الأهداف الوطنية، دون تحييد هذه الإمكانيات المتنوعة الكبيرة، وتحويلها إلى عبء أخلاقي وسياسي على الاحتلال من خلال إعادة الصراع الفلسطيني– الإسرائيلي إلى معادلته البسيطة والحقيقية: معادلة الجلاد والضحية".
واعتبر عوض الله أن المبادرات السياسية التي قدمت خلال الانتفاضة شكلت نجاحا لإسرائيل والولايات المتحدة "بدءا بتقرير ميتشيل، مروراً بخطة تينيت، وانتهاء بخارطة الطريق". وتوقف عوض الله بالتفصيل أمام ما اسماها أخطاء إستراتيجية وقعت فيها القيادة الفلسطينية من بينها، اعتقادها أن وصول الجمهوريين إلى رئاسة الولايات المتحدة سيكون لصالح الرؤية الفلسطينية لأسس حل الصراع، واعتقادها الثاني أن حكومة يمينية متطرفة بقيادة أرئيل شارون سيَسهُل عزلها دولياً وبالتالي إسقاطها، وأيضا اعتقاد هذه القيادة الثالث أن الصدام الدموي بين الفلسطينيين والإسرائيليين سيكون قصيراً.
وعدد الباحث ما اعتبره أخطاء أخرى اسماها أخطاء مباشرة ومن بينها كما حددها عوض الله:
*غياب مرجعية سياسية واحدة للانتفاضة تتحكم بأدائها وأشكال نضالها تناغماً مع أهدافها ومحيطها السياسي الدولي، واشتداد مظاهر الانقسام والمزايدة وازدواجية الخطاب والتوجيه للانتفاضة.
*استفحال مظاهر الازدواجية بين الموقع السياسي والتمثيلي للسلطة وما يفرضه ذلك الموقع عليها من التزامات، وبين عجزها شبه الكامل عن ضبط الصراع وقيادة وتوجيه القوى الميدانية.
*ساهمت العمليات التفجيرية، التي استهدفت المدنيين الإسرائيليين، داخل حدود الـ48، في توحيد غالبية المجتمع الإسرائيلي، ونزوعه نحو التطرف والعنصرية، وأضعفت إلى درجة كبيرة من تأثير القوى العقلانية والرافضة للاحتلال داخل المجتمع الإسرائيلي.
*ساهمت تركيبة النظام السياسي الفلسطيني، خاصة اندماج فتح في السلطة، واندماج السلطة في حركة فتح، في زيادة مظاهر الفوضى من جهة، وإضعاف دور السلطة.
ويتوقف عوض الله محللا عند بعض منعطفات الانتفاضة مثل استحداث منصب رئيس الوزراء، بجهود إسرائيلية وأميركية، لتجاوز رئيس السلطة آنذاك ياسر عرفات.
ويشير إلى أن أوساطاً قيادية في حركة فتح، أيدت استحداث المنصب والهدف "وقف التآكل المستمر في دور حركة فتح ومكانتها ونفوذها". أما بالنسبة لوجهة النظر الإسرائيلية – الأميركية، فإنها هدفت من استحداث المنصب "نسف النظام السياسي الفلسطيني، وتصفية الهياكل والأطر الوطنية القائمة، التي تحول دون مرور المفهوم الإسرائيلي للتسوية، أي حكم ذاتي على 42% من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة محصورة في مناطق جغرافية مقفلة".
ولكن استحداث هذا المنصب لم يحل أية مشكلة وسقطت حكومة محمود عباس، الذي كان أول من شغل منصب رئيس الوزراء، ويرى الباحث أن سقوط حكومة عباس أدى "إلى فراغ سياسي خطير حرر حكومة اليمين الإسرائيلي مجدداً من الضوابط والضغوطات، على قلتها، ودفعها لاستثمار هذه اللحظة السياسية باتخاذ قرار مبدئي عجزت عن أخذه طول الفترات السابقة، ألا وهو قرار إبعاد الرئيس ياسر عرفات".
وتواصل ما يسميه الباحث التخبط السياسي الرسمي الفلسطيني، ليصل إلى تشكيل ما سمي حكومة الطوارئ ويعلق على ذلك "هذا الارتباك محصلة للتناقضات المستعرة في جسم السلطة وحزبها على الصلاحيات والسلطات. ومن المؤسف أن كل هذا يتطور وسط تصاعد وتيرة العدوان الإسرائيلي، وفي مناخ دولي شديد الخطورة على القضية الوطنية، يتفاقم بتفاقم الفراغ السياسي الذي أحدثته الدربكة في تشكيل الحكومة الفلسطينية".
ويخصص عوض الله جزءا من بحثه لما اسماه "تآكل حركة فتح"، ويتوقف عند ما اسماه استكمال الحركة لعملية التحول إلى حزب السلطة "وماثلت بصورة تكاد تكون متطابقة تجربة الأحزاب المهيمنة في النظم السياسية لدول العالم الثالث والأنظمة الشمولية من حيث التداخل المركب والمعقد بين الحزب السياسي للسلطة ومؤسسات الدولة. وكل من سنحت له الفرصة لمراقبة تشكيل بنيان السلطة وأجهزتها المدنية والعسكرية يلاحظ التغوّل الذي مورس في التهام المواقع والمراكز القيادية في مؤسسات الشعب الفلسطيني على اختلاف ألوان نشاطها. وقد كان كافياً لكل راغب في إشغال تلك المواقع أن يكون عضوا قياديا في حركة فتح لتطوَّع له جميع المراكز الراغب في احتلالها".
ويضيف "جرى تنظيم عملية "الاستيلاء" على تلك المواقع من خلال معادلة الموقع التنظيمي بالموقع داخل السلطة. وهكذا جرت مكافأة قيادات هذه الحركة وتحفيز آخرين لهجرة أحزابهم أو استقلاليتهم للانخراط في حزب الثروة الوظيفية". وأدى ذلك إلى تحول فتح "من حركة واسعة التمثيل إلى حركة تمثل مصالح شريحة من البيروقراطية العسكرية - المدنية المتحالفة مع الأقسام الهامشية والطفيلية من البرجوازية الفلسطينية".
وفي مثل هذا الظرف، كما يرصد عوض الله، تقدم من يمليء الفراغ، ولم تكن سوى الحركة الإسلامية بمكونها الرئيس حركة حماس. وبعد رحيل ياسر عرفات، محور النظام السياسي ونواته المركزية، يقول عوض الله، أن النظام السياسي الفلسطيني انفتح على احتمالات واستحقاقات من نوع جديد نسبياً لم تعشه الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة حتى بعد قيام السلطة الفلسطينية.
وفي فترة لاحقة أخلت إسرائيل غزة، ويقول عوض الله أن الحركة الوطنية الفلسطينية أسقطت أسئلة كان يتوجب التصدي لها بعد هذا الاخلاء مثل: كيف يمكن جعل إخلاء غزة معبراً للاستقلال، وما هي الخطة السياسية والتفاوضية والكفاحية الجديدة؟، و كيف يمكن أن يساعد "نموذج" إدارة وقيادة قطاع غزة في رفد النضال الوطني؟
وبدلا من التصدي للإجابة على هذه الأسئلة وأخرى يوردها الباحث "تحول إخلاء غزة بالفعل إلى اختبار مفزع للشعب الفلسطيني ليس بسبب دموية الاحتلال ومخططاته فحسب بل وبأداء الفصائل الفلسطينية". ويعتبر الباحث بان فوز حركة حماس في الانتخابات المجلس التشريعي شكل "متغيراً جديداً على البناء السياسي الفلسطيني الذي ظل على مدار السنوات المنصرمة تحت هيمنة حركة فتح".
ويرى عوض الله أن فوز حماس كان فشلاً لفلسفة الحكم وإدارته، ويقول "أظهر فوز حماس، بخلفيتها السياسية والاجتماعية، ضعف المجتمع المدني ومؤسساته بالرغم من الأموال الهائلة التي صبت له، وهذا يحتاج بدوره إلى مراجعة شاملة من حيث قدرة هذه المؤسسات ببرامجها وقياداتها وأجسامها التنظيمية على تقوية المجتمع المدني كخط دفاع أساسي عن القيم والتقاليد التي سفح أموالاً ضخمة وهو يبشر بها".
ويتجنب الباحث الإشارة إلى مصدر الأموال الضخمة التي قدمت لما يسميها مؤسسات المجتمع المدني، وهي مصادر غربية، تمكنت من تحويل نخب فلسطينية واسعة إلى مجرد لاهثين خلف الدولارات، بينما أصبحت المنظمات غير الحكومية، حاضنة الفساد. وحول سيطرة حركة حماس على قطاع غزة في شهر حزيران (يونيو) الماضي، الذي يسميه الباحث انقلابا يقول "لا يكفي أن تقول الحركة الوطنية إنها أُخذت على حين غرّة بهذا الانقلاب العسكري لحركة حماس. أما وقد حدث هذا واتضحت معالم التراجيديا الجديدة في سفر الكفاح الوطني المعاصر، فإن الاكتفاء بحسم الجانب القانوني والدستوري في الصراع مع حماس، على أهميته، وبما يستجلبه من شرعية لازمة لتثبيت المكانة والفعالية السياسية في وجه الانقلاب الدموي، أمر يدل في أحسن الأحوال على أن الدرس لم يُفهم بعد، وأننا نؤسس لانقلاب جديد، بلبوس قد يكون غير اللبوس الإسلامي الذي حدث في قطاع غزة.
وإذا اعتقدت السلطة الشرعية الراهنة المتحزمة بالحركة الوطنية العلمانية، ونظيرها العلماني في المجتمع المدني أن المعركة بين الانقلابيين حُسمت بحسم الجانب القانوني والدستوري للشرعية فهي واهمة حتى العظم، ولم تقرأ جيدا الظروف والمناخات التي ولدّت هذا الانقلاب وجعلته ناجحاً بنتائجه المباشرة على الأقل". ويطالب عوض الله بإجراء عملية تقييم "جذري حد الجلد لمسيرة النظام السياسي الفلسطيني المتحول إلى سلطة" وإذا لم يتم ذلك كما يرى "فان هذه الشرعية عُرضة لخطر التآكل والتلاشي".
وبعد سبع سنوات، من اكثر الانتفاضات دموية في التاريخ الفلسطيني المعاصر، والذي قدم فيها الشعب الفلسطيني ما يمكن أن "يحرر عشرة شعوب" كما يقول البعض، فان اداء القيادات السياسية أدى إلى مآزق عديدة دخل فيها الشعب الفلسطيني، في حين استمرت هذه القيادات وبنفس الوجوه، في مناصبها، حتى دون أن تفكر في إجراء مراجعة نقدية، وهو ما لم تفعله الحركة الوطنية الفلسطينية، طوال تاريخها، منذ التورط في الحرب الأهلية في الأردن التي سميت أحداث أيلول الأسود، ثم المشاركة كطرف في الحرب الأهلية اللبنانية، والسقوط المريع، غير المبرر في تجربة الحكم الذاتي المحدود المسمى السلطة الفلسطينية، الذي لم يبقى منه على ارض الواقع شيئا من اسمه.
http://www.elaph.com/ElaphWeb/Politics/2008/1/298746.htm
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق