أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأحد، 2 نوفمبر 2025

عدالة الجسد وسياسة المكان والذاكرة


 يقدّم أسامة العيسة في روايته «بنت من القُدْس الجديدة» عملاً سرديّاً يختبر قدرة الأدب على مساءلة القانون، والأخلاق، وذاكرة المكان والتاريخ  في آنٍ معاً. هذه الرواية «رواية مدينة» تُكتب عند تخوم المحاكم في أوائل القرن الماضي، والأرشيفات، والمخططات الاستعمارية، ومائدة الخبز اليومي. جوهرها واقعة قضائيّة تبدو بسيطة في ظاهرها: امرأة مقدسيّة (صالحة) تتقدّم صراحة إلى المحكمة وتطالب بتعويضٍ عن «إزالة بكارتها بطريقة غير مشروعة». غير أنّ العيسة يحوّل هذا الملف إلى عدسةٍ تكبّر طبقات القدس: سلطة القاضي، أخلاق الجماعة، هندسة المستعمر للفضاء، وسياسات التسمية، وحياة الناس الدقيقة. من هنا تأتي فرادة الرواية: حيث أنها تنسج التخييل بالوثيقة بدون أن تُسلم قيادها لأيٍّ منهما.

قاعة المحكمة بوصفها مسرحاً للمدينة

ينطلق السرد من قاضٍ يلقبه أقرانه الأدباء في «مقهى الصعاليك» بـ«التنكزي»، وهو قاضٍ مأزوم بالأسئلة المهنية والأخلاقية. لا يعود إلى بيته بعد أول مواجهة مع صالحة، بل يلجأ إلى أرشيف المحكمة الضخم وغير المنظم ليقلب سجلات قديمة «بحثاً عن قضايا مشابهة نظرها أسلافه»، فيعلن منذ البداية أن زمن القدس دائريّ متكرر وأن ما نشهده اليوم له سوابق وأشباه في قرون مضت. هذا التخييل لا يلغي الانحياز إلى «الوثيقة»، لكنه يفتح له ممرّاً: يعود القاضي إلى سجلات شرعية تعود إلى 1545م تُدين رجلاً في باب حطة وتنفِيه من المدينة، فيرى في التعزير حكماً مناسباً ويتوقف عند قسوة النفي كعقوبة تاريخية.
وهكذا تُبنى الرواية على حركة ذهاب وإياب بين غرفة المداولة وحواشي السجلّات: كلّ استدعاء لوثيقة قديمة يرفد الحاضر بتأويل جديد، وكلّ ترددٍ في المحكمة يدفع الراوي إلى حفريات أرشيفية أو إلى ساحة المدينة. هذا التناوب يمنح النصّ إيقاعاً بحثياً دون أن يفقد نبض الحكاية.
تتبدّى جُرأة الرواية في وضع جسد المرأة داخل لغة الحقّ. لا تأتي صالحة مستحية ولا مترددة؛ إنها تخاطب القضاء مباشرةً وتطالب بتقدير ثمن بكارتها، ثم تراجع القاضي الأعلى لأنها اصطدمت ببطء الإجراءات، وبيروقراطية القضاء. وفي الجلسة، حين تسترسل حجتها: «لا يوجد للواحدة منا إلا بكارة واحدة»، يلتقط السرد منطق الندرة والتعويض ليختبر سُبل تحويل «الفضّ» من وصمة اجتماعية إلى واقعة قانونية قابلة للإثبات والتعويض، مع ما يثيره ذلك من أسئلة: كيف يُثبت الشرع ذلك؟ وكيف تنضبط المعايير في قاعةٍ محكومة بأعراف المدينة وبيروقراطية الدولة؟
لا يقدّم النصّ أجوبة حاسمة؛ إنه يضع القاضي تحت تربّص ضميره ومهنته، يُهدّد المتقاضي بالغرامة إن استهان بالمحكمة ويعيد فرض الانضباط الرمزي على جلسة تهددها الفوضى. بهذا المعنى، القاضي «بطلٌ مُحرَج»: يُعرّي هشاشة العدالة الإجرائية عندما تُحمَّل بأعباء الجسد والسمعة.
تحتمل الرواية عنواناً فرعياً دالاً: «قاضٍ يحكم على نفسه»؛ وهو اختيار سردي يعيد مركز الثقل من «الحكم على الغير» إلى محاكمة الضمير المهني. في مشاهد متفرّقة، نرى القاضي ينتفض لكرامة المحكمة حين تتلكأ إدارات أدنى في إحالة الملف، ويواجه مراوغة المتهم واستفزازه، ثم يذكّر صالحة بحدود الخطاب في الجلشة، ينكشف القاضي كإنسانٍ محصور بين النصّ والواقع دون أن يتضخّم  دوره كبطل؛ وإذا كان قد تميز بعقوبة أوقعها على ذاته، فإن المهم سرديّاً هو الاعتراف بأن الحكم الأخلاقي لا يختزل في الصكّ القضائي، وأن العدالة ليست قراراً منفرداً بل شبكة من مؤسسات ونزعات وذاكرات.

الحداثة الاستعمارية: آشبي والخرائط التي لا تُمسك بالقدس

على الضفة الأخرى من قاعة المحكمة، تتبدّى القدس بوصفها ميداناً لحداثة استعمارية يحضر فيها المستشار البلدي البريطاني تشارلز روبرت آشبي بصوتٍ لا يخلو من سخرية وازدراء. يقول ـ على نحو كاريكاتوري ساخر ـ إن «مدينتكم هذه لا حلّ لها… معالمها الإسلامية والمسيحية واليهودية… وجمهور من الأوباش، وجميعهم لهم مصلحة في إبقاء الأمر الواقع»، فيكشف خيبة مهندسٍ يريد ضبط مدينةٍ تتفلّت من تخطيطه.
لا يُساجل النصّ الآراء العمرانية نظريّاً، بل يدحضها عبر السرد: فكلّ محاولة لتسوية المدينة في المخطط تُقابلها عودة موجات الرعب واندفاعة السكان وتداخل المقدّس بالدنيوي، كما في «وباء الرعب» الذي «ينتقل كالوباء» خارج الأسوار، فتتحرك أجهزة الأمن والدين لتهدئة الجمهور بدون معرفة سببٍ واضح لبداية الهلع ونهايته.
تبلغ الرواية ذروة نقدها للحداثة العنيفة عند تفجير فندق الملك داود: ينهض المشهد مدعّماً بالتعدادات والأرقام (91 قتيلاً، بينهم 41 عربياً و28 بريطانياً و17 يهودياً) ليذكّر بأن أدوات التنظيم الاستعماري لم تمنع تصعيد الإرهاب الصهيوني ضد المدنيين في زمن الانتداب، بل استُدرجت إلى ساحة العنف ذاتها.
في فصلٍ آخر، تُدار معركة رمزية حول اسم المكان: «البقعة» التي يسميها أهلها «وادي الورود» لحدائقها وماء الورد، في مقابل الاسم العبري «عِيمِق رفائيم»، ومحاولة تغييره في زمن الإدارة البريطانية التي رفضت خوفاً من غضب السكان. هنا تُبرز الرواية أنّ التسمية ليست حياداً لغوياً بل صراع على الذاكرة والخيال الجمعي، وأنَّ سيطرة المستعمر على الخرائط تمرّ عبر تغيير أسماء الأمكنة.
لا تكمن الفائدة السردية للاستعانة بالوثائق في توثيق الواقعة فقط، بل في توليد شعرية خاصة. حين يورد السرد خطاباً مملوءاً بألقابٍ سلطانيةٍ قديمة ـ كما في سيرة نائب السلطنة المملوكي تنكز ـ فهو لا يُعيد إنتاج البلاغة الوسيطة مجاناً، بل يفضح تضخّم السلطة في اللغة ويقارنها بلغة المحكمة الحديثة الجافّة.
كذلك يرصّ المشاهد التي تتناول «اختلاط الرجال بالنساء في الحرم القُدسي» مقرونةً بإحالاتٍ سجلية إلى سنوات 1556–1557م، بما يوحي بأن أخلاق المدينة تُعاد كتابتها دوريّاً تحت العيون ذاتها: عين القاضي، عين الصوباشي، وعين الجمهور الذي يشهد ويشي ويُصلح. هذه اللعبة الأرشيفية لا تُعطل اللذة الحكائية؛ لكنها تُقوّي إحساس القارئ بأنّ ما يقرأه له جذور في عادات التقاضي وبلاغة الحُجّة، وأنّ المدينة لا تُفهم دون لغة سجلاتها.
لا تكتفي هذه الرواية بفضاءات القضاء والسياسة؛ فتهبط إلى «اقتصاد الرموز اليومية»: مشهد «الخبز المطبطب» الذي يُعرّف به أبو ميلاد بوصفه أكثر من خبز، «رمز للثقافة والضيافة»، سافر من أديرة السالزيان في إيطاليا في القرن التاسع عشر ليزيّن موائد عابرة للمتوسط. هذا التفصيل «المطبخي» دليل على تدفّق الذاكرة عبر قنوات غير بطولية: رغيفٌ يربط بين إيطاليا والقدس، بين الرهبنة والبيت، بين نصّ المدينة ونصّ المعدة. إنه يقترح قراءةً للهوية كشبكة تذوّق بقدر ما هي شبكة عقائد.
يُعلن الراوي صراحةً في مفاصل عدة، وعيَه بصناعته: «وسوسة روائي، تفلت الخيوط من يده». كما يتردّد عنوان فصل «توجس كاتب المجانين، وكسرة كِسرى» بوصفه تعليقاً ذاتياً من داخل النص على هشاشة السيطرة السردية حين تتكاثر الملفات والشخوص والمراجع. هذا الإفصاح يؤنسن السارد ويقرّ بأن رواية مدينة متشعّبة كالقدس لا تُختزل في حبكةٍ واحدة، وأنّ «الوثيقة» نفسها تتفلّت وتتوالد.
تستثمر الرواية ذاكرة الأفكار السياسية وهي تقفز بين الأزمنة: من مقترحات «الدولة الواحدة» إلى مآلات «الرئيس الثوري» و«الكتاب الأخضر» و«الكتاب الأبيض»، في سياق تلميحاتٍ إلى سرقة الأفكار وادعاءاتها، وصولاً إلى الشعرة الفاصلة بين الشعارات والواقع. لا تشرح الرواية هذه المقارنات نظرياً، بل تتركها تعمل كإسقاطات تذكيرية داخل السرد لتسائل منطق الحلول الشمولية وصلتها بحياة الناس.
أسلوب العيسة مُركّب: يمزج لغة المحاضر القضائية الجافّة، والعامّيّات المقدسية المحتشدة بالتناص المحلي، وبلاغة السرد الكلاسيكي (التعداد، النَّبز، المبالغة الساخرة)، إلى جانب نبرة توثيقية حين يورد الأرقام والوقائع (تفجير فندق الملك داود). المقاطع التي تتبادل فيها الشخصيات الشتائم، وتلوّح المحكمة بالغرامات حفاظاً على هيبتها، تؤدّي وظيفةً فنيّة: إحياء المسرحة في قاعة المحكمة وإظهار الصراع الخطابي بين «حقّ» يُنطَق به و«هيبة» تُحافَظ عليها.
يمكن للقارئ أن يُسجّل على الرواية ميلاً إلى الاستطراد، خصوصاً حين تتكاثر المقارنات السياسية، أو حين يصرّ الراوي على تذكيرنا بأن «الخيوط تتفلّت من يده». لكن ذلك إعلان موقف جمالي: حيث أن رواية مدينة مركّبة مثل القدس لا تُختزل في سردٍ خطّي، والكاتب يفضّل أن يُبقي «الملفّ مفتوحاً» على قراءاتٍ متعدّدة. بهذه الروح، تتحقّق قوّة النصّ، فالمشهد القضائي ـ الذي قد يتحوّل لدى كاتبٍ آخر إلى مثاليةٍ وعظيّة ـ يُقدَّم هنا كمختبرٍ لأخلاقٍ متضاربة لا تني تتفاوض مع التاريخ والسياسة واللغة.
تُراهن «بنت من القُدْس الجديدة» على ذكاء قارئٍ محترف، قارئٍ يقدّر سحر التفاصيل حين تُحسن اختيار معناها، ويحتمل أن تتجاور في الصفحة الواحدة سجلات عام 1557 مع ملفٍّ في محكمة البداية ومع سخرية مهندسٍ بريطاني ومع رغيفٍ على مائدة عائلة مقدسية.
ولا تُقرأ هذه الرواية مرّةً واحدة. فهي لا تتخيّل القدس فحسب؛ بل تدرّب قارئها على قراءتها: مدينةٌ تفاوض القضاء بقديمه وحديثه، تُجرّب حداثة المستعمر ثم تُحبطها، وتُغنّي خبزها المطبطب بوصفه ذاكرةً لا تقل شأناً عن أي حكمٍ قضائي. بهذا المزج المتقن بين بلاغة الوثيقة وحياة الناس، يضع العيسة عمله في صف مهم من الروايات العربية التي أعادت التفكير في وظيفة الأدب، ليس لتأكيد هويةٍ جاهزة، بل لصناعة معرفةٍ نقدية تُسائل المكان والحقّ والاسم، وتمنح القارئ أدواتٍ جديدة لفهم القدس ـ بوصفها نصّاً مفتوحاً لا يكفّ عن إعادة كتابة نفسه.

أسامة  العيسة: «بنت من القدس الجديدة»
دار المتوسط، ميلانو 2025
160 صفحة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق