يبرز المنزل المبني من الحجر الوردي، المعروف باسم منزل الحاج محمود، في محلة الشيخ بدر، في القدس الجديدة، وكأنه، واحدة من الصفحات التي ذرتها الرياح الأندلسية، بمعماره، ولوحات الخط بالقاشاني الأزرق، والسيراميك، والأرابيسك.
بني المنزل، المكون من ثلاثة طوابق، قريبا من النصب التذكاري، الذي بناه البريطانيون، في الموقع الذي تسلموا فيها القدس من آخر رئيس بلدية للمدينة في العهد العثماني حسين الحسيني، ليبدأ عهد جديد بعد أربعة قرون من تاريخ فلسطين، ومعه ازدهار أحياء لفتا الفوقا.
صمم المنزل المهندس سبيرو خوري، الذي عرف بتصميماته للعديد من المنازل الفاخرة في القدس، مثل قصر أديب العربية محمد إسعاف النشاشيبي في محلة الشيخ جراح، وبيت الشرق.
بصمات خوري الهندسية، تظهر على المنزل، بتفصيلات فاخرة من الحجر الوردي، من محاجر بلدة لفتا، ودرابزين سقف مسنن، وأحجار الزاوية، والعتبات، ودرابزين حجري مثقب وأنيق للشرفات، تجملها لوحت الخط بالقيشاني الأزرق، إضافة إلى جداريات هندسية بالقيشاني.
خط بالقيشاني آيات قرآنية مثل: "وأما بنعمة ربك فحدث" و"وإن تعدو نعمة الله لا تحصوها" و"ادخلوها بسلام آمنين".
على الأرجح فإن مصدر القيشاني، المصانع المنتشرة في القدس آنذاك، مثل مصنع بليان في محلة سعد وسعيد، ودار الأيتام الإسلامية، والقسم الصناعي في مدرسة الأيتام السورية (شنلر)، وهذه كانت أشهر مصادر بلاط السيراميك، للمنازل الحديثة في القدس.
تقع محلة الشيخ بدر فيما عرف بلفتا الفوقا، تمييزا لها عن جذر القرية التي خرج منها العديدون ليبنوا في أراضيهم الممتدة. بعد الانتداب أصبح الاسم الشائع للموقع الذي بني فيه المنزل، روميما، وعرف كحي مختلط عربي-يهودي-بريطاني.
بني المنزل، ضمن ظاهرة انفتاح معماري على العالم الخارجي، وأنماط معمارية جديدة، لمنازل بنيت خارج بلدات المدن القديمة، أو نواة القرى الريفية، لغايات السكن أو الاستثمار.
في القدس، شهدت الفترة منذ عشرينيات وحتى أربعينيات القرن العشرين، موجة بناء مزدهرة، في الأحياء العربية خارج البلدة القديمة، بالإضافة إلى محلة الشيخ بدر وغيرها من أحياء لفتا الفوقا، مثل الطالبية، والقطمون، والبقعة، وتميزت المنازل بتصاميم وفيرة وغنية، بعضها مزخرفة بالخزف المزجج والملون.
نكب أهالي لفتا، وشردوا عام 1948م، خصوصا بعد مذبحة مقهى صالح عيسى، في لفتا الفوقا، عندما هاجمت العصابات الصهيونية رواد المقهى بالرشاشات، فاستشهد سبعة من رجال القرية في 28 ديسمبر 1948م.
تعود الرجال الاجتماع في المقهى، لوجود راديو فيه، شكل مصدرهم للأخبار، وتلاوة القرآن، والمواعظ الدينية.
أسكن المحتلون، في منازل محلة الشيخ بدر المنكوبين، 25 عائلة يهودية فورا، لضمان عدم عودة المشردين إليها.
يقول الباحث المختص بتاريخ قرية لفتا ضياء معلا: "الحديث عن منزل الحاج محمود محمد العاصي، وشقيقه الحاج علي، كانا من أصحاب شركة كسارات وسيارات نقل للحجارة (تركات)، وملكا أيضا عمارتين خلف منزلهما هذا".
يضيف معلا: "كان للحاج محمود العاصي فرس أصيلة، وضعها في خدمة العرسان، حيث كانت تستخدم لزفة العرسان من أبناء لفتا، بعد النكبة، لجأت عائلة العاصي إلى رام الله، وسكنت في منزل يعود لعائلة طوطح- شارع مدرسة الفرندز، وفي مطلع الستينيات، بنت العائلة منزلا في حي سطح مرحبا بمدينة البيرة، وسكنت فيه".
بدا أن مواعيد الحاج محمود مع القدر مستمرة، ففي يوم الخامس من حزيران 1967م فارق الحياة. يقول معلا: "في اليوم الأول للحرب، رحل الحاج محمود العاصي، وبسبب ظروف الحرب، دفن بجانب منزله في مدينة البيرة، وفي عام 1984 توفي شقيقه الحاج علي العاصي ودفن في مقبرة البيرة القديمة".
هدم المحتلون، صف المنازل بجانب منزل الحاج محمود، ليبنوا ما يعرف الآن بمحطة الحافلات المركزية، بينما بنوا على أنقاض محلة الشيخ بدر، مؤسسات رسمية كالكنيست، ومتحف إسرائيل، ومتحف أرض الكتاب وغيرها.
https://www.alhaya.ps/ar/Article/138901/%D9%85%D9%86%D8%B2%D9%84-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%85%D9%81%D8%AA%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE