تعرب
هالة السكاكيني، في ذكرياتها عن قدسها، عن ودها لو استطاعت كتابة رواية تجري أحداثها
في القدس، وتمنت لو استطاعت التقاط مزاج القدس وروحها، وهي مؤهلة لذلك لعيشها في
مجتمع تعددي (فوق قومي)، هو الأقرب، برأي، لروح القدس.
لم
تكتب السكاكيني، الرواية التي تمنتها، ذات يوم مقدسي، وهي تراقب الناس، في الحافلة
التي تتنقل بها من مدرستها إلى منزل العائلة في القدس الجديدة.
شغلني
الفشل الفلسطيني والعربي، في كتابة رواية تلتقط روح القدس، واعتقدت بأنّ الثقل
الديني والعاطفي والسياسي للمدينة، يكبّل المبدعين، وأن التحرر من هذا الثقل، قد
يكون شرطًا لكتابة رواية القدس.
وسنجد
كتّاب السير واليوميات، أنجح في التقاط روح المدينة، لأسباب عديدة، كواصف جوهرية، والإسرائيلي
عاموس عوز، وخليل السكاكيني، وإحسان الترجمان، وغيرهم.
فكرت
السكاكيني، بتدوين مذكراتها، بعد زيارتها وشقيقتها دمية، لمنزل العائلة المحتل في
القطمون، بعد الاحتلال عام 1967م، مشيًا على الأقدام، تجنبا لاستخدام المواصلات الإسرائيلية،
كما ذكرت في كلمة ألقتها في جمعية الشابات المسيحية في رام الله بتاريخ 15-6-1999.
وهو ما يرمز إلى فعل مقاومة سلبي، متاح أنذاك لدى الشقيقتين السكاكيني.
ولكن
العلاقة مع الآخر العدو، لن يتوقف عند موقف ربما اصطبغ بمشاعر عاطفية، ففي نفس الكلمة،
يساورها، هاجس فلسطيني انتشر فيروسيا وما يزال، ومر بطفرات حولته إلى عصب نفسي، يحتاجه
المهزوم، ليعلق أسباب الهزيمة على شماعات وهمية، لها علاقة بالآخر، مؤسطرًا جوانب خفية،
فوق طبيعية، تتعلق بالعدو يراها المهزوم، وذلك الآخر الأجنبي الفاعل، ولكنّه يبدو
متفرجًا.
تكشف
هالة، بأنها فكرت في كتابة مذكراتها عن واقع القدس قبل النكبة، وكانت غايتها اطلاع
الأجانب وخصوصًا الإسرائيليين، على ما اعتقدت انها حقائق كانوا يجهلونها عن الأحياء
العربية، فيما يسمى الآن القدس الغربية، وهذا ما جعلها تختار اللغة الانجليزية،
لغة تخاطب.
رغم
إن مفهومي الأجانب والإسرائيليين، عائمين، وتنميطين، إلا إن الفضاء المعرفي، يكشف
لنا بأنّ الأجانب والإسرائيليين، هم في الواقع، أكثر ما بذلوا جهودًا معرفيًا عن
المناطق التي ذكرتها هالة (وعن غيرها بالطبع). وأي بحث جاد عنها من الضروري أن
يعود صاحبه إلى الإنتاج المعرفي الأجنبي-الإسرائيلي.
وحتى
بلدية القدس الاستعمارية، وثقت الكثير من المباني الفلسطينية العامة والخاصة،
ووضعت لافتات تعريفية عليها، بحياد يناسب سيكولوجية المنتصر المختال، أو ربما هو
نتيجة عرضية لخطط التطوير الحضرية، التي يشارك في وضعها نحو خمسين، ممن توصفهم
البلدية من أفضل العقول في العالم، الذين يجتمعون في مدينتنا المحتلة، كل عامين، ليضعوا
خبراتهم في خدمة المحتلين.
تفضح
الترجمة العربية، أسطورة أن الآخرين لا يعرفون أو أنهم لم يعرفوا، وهذا يعني بأنهم
لو عرفوا، كان يمكن أن يتغيروا أو يغيروا، وهو المضمن في كلام هالة. فحتّى لو كان الأمر
يتعلق بكاتبة مقدسية صميمة، والمحرر قريب لي وجدانيا وإنسانيا، إلا أن الترجمة
العربية وقعت في مثالب الكتب الفلسطينية والعربية عن القدس وفلسطين، والسبب معرفي.
تتحدث
هالة عن رحلة من مدرستها في الكولونيولية الألمانية، في القدس الجديدة، إلى القدس
الشرقية. تترجم المترجمة اسم المعلم الذي تذكره هالة إلى برك سليمان، والمقصود
بالطبع بركة السلطان، ولم يصحح المحرر الخطأ، بل عمل هامشا ليقدم شرحا عن برك
سليمان، وهو شرح يكتنفه أخطاء.
ونسبة
بركة السلطان، إلى القانوني، هو نموذج، على فعل الإلغاء والإحلال الذي مورس تاريخيًا
في القدس، فاللوحة التذكارية التي تعدد صفات القانوني المثبتة على واجهة البركة الشمالية،
وضعت في الإطار المملوكي، مؤكدة مقرنصاته، هوية الحكام الذين سبقوا العثمانيين إلى
المدينة المقدسة.
يظهر
في الترجمة العربية، اسم البقعة العليا، والمقصود البقعة الفوقا، وتستخدم الأخيرة
في صفحات مختلفة من الكتاب، ثم تعود البقعة العليا، لتطل من جديد. وترد أيضا كلمة
الطوري، والمقصود بالطبع حي الثوري.
يبدو
حديث هالة عن ما تصفهم بالمسلحين الفلّاحين، والمقصود الثوّار، عن أناس، يسبحون في
فراغ، أو كائنات حطت فجأة ربما من كوكب آخر، بينهم وبينها مسافة، حتى لو كان
والدها يستقبل زعيمهم إبراهيم أبو دية في منزله (لا تذكر اسمه الأوّل أبدًا، محيلة
اسم العائلة إلى كنية)، وكان وجوده حيا، مصدر طمأنينة، للنخب التي سكنت القطمون.
سيبقى
المسلحون الفلّاحون، في القطمون ليموتوا، بينما ستغادر النخب وعائلاتهم، كما غادر
نظرائهم من باقي فلسطين معتبرين خروجهم، نوعًا من تبكير الإجازة الصيفية، وما أن
تنتهي، حتى يعودون، ويجدون منازلهم وأملاكهم، وقد سلمت، بفضل أجساد المسلحين الفلّاحين.
تلجأ
عائلة السكاكيني إلى حي هليوبولس القاهري، الذي تحوّل، كما تشير هالة، إلى مستعمرة
فلسطينية؛ فبين كل بيت وآخر تعيش أسرة فلسطينية، ولكنها لن تعود، مات المسلحون
الفلّاحون، أو جرحوا، أو فقدوا، ومعهم فقدت البلاد، وتشرد العباد، وأصبحوا لاجئين،
في الخيام، وليس في شقق وفيلات الهيلوبولس أو رأس بيروت.
في
الكتب الفلسطينية والعربية عن فلسطين، الموضوعة والمترجمة، يكتف المحققون، إلى
التعريف بالأسماء المعروفة أصلاً، ويتجنبون أي تحقيق، وهذا هو عملهم، للأسماء والأماكن
غير المعروفة. ولم تنجو الطبعة العربية، من سيرة هالة، من ذلك.
حظيت
الترجمة العربية بمقدمتين؟ هل كانتا ضرورتين؟ لماذا تكتب المقدمات للكتب أصلاً؟ ربما
لو استعيض عنهما بدراسة تحقيقية استقصائية، تضع الكتاب والمؤلفة ضمن الشرط
التاريخي، لفعل الكتابة.
الكتاب:
*أنا
والقدس: سيرة ذاتية، هالة السكاكيني، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ومؤسسة تامر
للتعليم المجتمعي، ترجمة هلا الشروف، بيروت، 2019م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق