انتهيت أمس من
قراءة السِفر الأول من أسفار رواية "مجانين بيت لحم" للروائي الصديق
أسامة العيسة. وهي رواية جديدة، وعن فلسطين بكل معنى الكلمة.
تبدأ الرواية
هكذا : "يقول الفلسطينيون" .
ثم تذهب إلى
ما يقولونه عن دهيشة المجانين. فالدهيشة هي الحيز الذي تدور حوله الرواية. وهي مقر
مستشفى المجانين الشهير ببيت لحم.
مدخلان مهمان.
أولا: ما يقوله الفلسطينيون. وفقط ما يقوله الفلسطينيون. فالرواية ترفض أو تتبرم
من كل عبور أجنبي على هذه الأرض منذ لحظة مجيء إبراهيم باشا عام 1833، مرورا
بالعثمانيين والانجليز وأخيرا اليهود.
ولكن كيف تتسع
الرواية لكل ذلك؟ يظهر ذلك في المدخل الثاني: الدهيشة. المكان ومربط الحكاية. أنت
ستعرف من مقدمة الكتاب أن الحديث يدور حول الدهيشة ومجانين بيت لحم. ولذلك ستحب أن
تعرف أكثر عن هذا المكان. فقد طالما أثار الجنون فضول الانسان. ولتعرف عليك أن
تصبر. وأعتقد أن أي قارئ جاد سيطيق مع أسامة العيسة صبرا.
يبدو السارد
هنا شخصا حكيما حكمة خرافية فهو يعرف كل شيء ولا يعرف أي شيء. وهو يسأل كأنه لا
يعرف ويجيب كأنه لا يسأل. ويحكي كأنه لا يجهل أي شذرة من تاريخ هذه البلاد. ويصمت
كأنه لا يعرف كيف تجري الأمور. سيحدثك عن الدهيشة لماذا سميت بالدهيشة؟ الحكاية
الراجحة أنها اكتسبت اسمها من زيارة إبراهيم باشا. وهذه حكاية طويلة سيرويها أسامة
العيسة باقتدار وبراعة. ويقال أيضا انها اخذت اسمها من شخص عاش في بيت لحم وكان
اسمه داهش بيك. أحد أساطير المدينة. أسطورة يتتبعها الراوي في حكايا المسنين وسير
المثقفين الكبار أمثال جبرا وشرابي. وستفقد ثقتك في هذه اللحظة. ستتوه بين الحقيقة
والخيال. وتسلم قيادك للراوي أو تتوقف لتراجع كتبا عديدة يرد ذكرها في ثنايا
السرد. بل في لحظات ستشعر بشبه لعله مقصود بين داهش بيك وبين جبران خليل جبران في
قضية نبي العصر، ولكن الشبه لا يلبث أن يتطاير فجأة كما حضر فجأة (فهل أراد الكاتب
ان يرسم بشكل غير مباشر نماذج مشهورة في الوسط الثقافي).
عرفنا أصل
التسمية، وصار لزاما أن نعرف لمن كانت أرض الدهيشة، في الأصل؟
كانت تسمى كَرْم جاسر. والآن نحن موعودون مع
حكاية عن كَرَم حاتمي، يتساءل المؤلف: كم تعيش الأساطير الحاتمية ويروي قصة هذا
الثراء وذاك الكرم، وكيف انكسر الثري وباع الكرم الذي سكنه اللاجئون بعد حرب
الثمانية والأربعين.
ويريد المؤلف
أن يفرق بين دهيشة المجانين ودهيشة اللاجئين. يجهد ليفعل ذلك. ويحكي قصصا عن سكان
دهيشة اللاجئين. لكن القصص دائما ما ترتد إلى الجنون. يجن اللاجئون. فتاريخ
المنطقة يبعث على الجنون. وأرض السلام تعيش بلا سلام.
والجنون هنا
ليس جنونا نفسيا يتتبعه الروائي تتبع فرويد لمسارب النفس البشرية وانحرافاتها عبر
الظواهر العصابية والذكريات المتحوصلة كالشوك في اللاوعي. الروائي يتتبع ظواهر
الجنون. وفي كل قصة عن جنون أو نصف جنون يضيء جانبا من جوانب هذه الظاهرة البشرية
ولكنه لا يستغرق في التحليل، حتى كأنه لا يرى في الجنون مرضا. بل استجابة طبيعية
لتاريخ هذه المنطقة.
والرواية
مصوغة على شكل خطاب إلى عجيل المقدسي عميد مجانين فلسطين على مّر الأزمنة ومُرّها
كما يقول السارد. ولكنها فنيا تنتحل أساليب عديدة منها أسلوب البحث التاريخي،
لتروي قصصا، وتوهم القارئ بحقيقتها الكاملة.
ولكي يزيد
المؤلف في التفريق بين دهيشة المجانين ودهيشة اللاجئين يجب ان نتذكر الامبراطور
الالماني غليوم. الذي زار فلسطين أواخر القرن التاسع عشر، وحالف العثمانيين، وبنى
ميتم الأرمن الذي تحول إلى مشفى للمجانين عبر تحولات تاريخية وسياسية تنقل خلالها
المبنى من الألمان قبل الحرب العالمية الأولى، للإنجليز بعد الحرب، للإدارة
الاردنية بعد حرب الثمانية وأربعين، لليهود بعد حرب السابعة والستين، للسلطة بعد
أوسلو، يسردها أسامة العيسة عبر فصول ممتعة تحكي حكاية فلسطين الطويلة في قرنين
مضطربين من الزمان.
وهنا ينتهي
السِفر الأول: سِفر التكوين. مع نهاية هذا السِفر ستكون قد قرأت تاريخا طويلا
وحكايات عجيبة عن فلسطين وأهلها. تمهيدا للرواية التي ستبدأ حسب المؤلف مع سفر من
لا أسفار لهم.