احتاج الصحافي الهولندي يوريس لونديك وقتا، ليس طويلا ليدرك: "ان مفهوم الصحافة الجيدة في الشرق الأوسط ليس سوى تناقض في التعابير". وذلك بعد عمله لمدة خمس سنوات، مراسلا ًلوسائل اعلام هولندية، في الشرق الاوسط.
ويسرد لونديك في كتابه "بشر مثلنا: تحريف الحقائق في الشرق الأوسط" الذي صدرت طبعته العربية عن الدار العربية للعلوم في بيروت، كيفية صناعة الخبر في منطقة لطالما تصدرت أخبارها نشرات الأنباء، ويطرح اسئلة حول المعايير التي تحدد نوعية الأخبار التي تبرزها وتهتم بها وسائل الاعلام العالمية.
وينتقد تلك المعايير، التي لا يعرفها في الواقع، لأنها تقدم العرب، بشكل قد لا يكون معبرا عن واقعهم، في حين انهم "بشر مثلنا".
ولكن الكتاب يزخر بانتقادات للوضع في العالم العربي، ويبين كيف أنه يتعين على الصحافيين الاجانب دفع رشى، للحصول على تأشيرات دخول، ومعرفة مصادر المعلومات، ومنهم كما يقول، مدرجين على قوائم الرواتب في وكالات الانباء، والمؤسسات الصحفية الكبرى، ويعطي مثلا بموظف في وزارة الاعلام العراقية في عهد صدام حسين، كان مدرجا على سلم رواتب البي بي سي.
يروي لونديك أنه دفع 1000 دولار لشخص مصري للحصول على تأشيرة للدخول الى عراق صدام حسين، ولكن ذلك لم يكن النهاية، وكان عليه وضع مائة دولار في يد الموظف على الحدود. ومبالغ اضافية لإدخال أي شيء، وأموال اخرى تدفع كرشى خلال الاقامة.
يقول لونديك،الذي يتكلم العربية، ودرس في مصر: "عندما ترى شرطيا في هولندا، تشعر بالاسترخاء لان ذلك الرجل او تلك المرأة موجود او موجودة لأجلك. ولكن عندما يرى عربي شرطيا، يبدا بالركض. حاميها حراميها".
ويؤكد، من خلال تجربته إن: "الأخبار غير الصحيحة تهيمن على الأنباء، واننا نعتمد اخبار وكالات الانباء من دون تفكير". مشيرا الى صعوبة العمل الاعلامي في العالم العربي، وخوف الناس من الحديث بحرية، وغياب استطلاعات راي حقيقية، ونتائج الانتخابات المزورة، وكلها تعقد المسائل.
ويعتقد لونديك: "تقوم اجهزة المخابرات في العديد من الدول العربية بمراقبة البحاثة قبل توظيفهم، ويعود الفضل في حصول العديد من الأكاديميين على وظائف الى علاقاتهم وليس الى قدراتهم، وهو سر مكشوف. وتتابع العديد من السفارات العربية في الدول الغربية ايضا وسائل الاعلام عن كثب لان نقل كلام على لسان الأكاديميين هو امر محفوف بالمخاطر بالنسبة اليهم، ولكنه امر جذاب. فالأكاديمي العربي الذي يظهر تكرارا في صحف ومجلات غربية مشهورة او على شاشات التلفزة يتلقى دعوات الى مناسبات فنية متعددة الثقافات، ومن قبل مؤسسات استشارية واكاديمية في الغرب. هذا يعني تأشيرة دخول، والحصول مستقبلا على تأشيرات دخول بسهولة اكبر، ويعني كذلك رحلات جوية مجانية، وتسوق معفى من الضريبة، واتصالات مع ناشرين، أصحاب رعاية، ومؤسسات توفر أعمالاً وأسفارا ومنحاً دراسية تتضمن تكلفة الاقامة، وغالبا ما تزيد قيمة المخصصات اليومية في المؤتمرات الغربية عن مرتب شهر يتقاضاه الأكاديميون في الدول العربية".
وعن الناشطين العرب في مجال حقوق الانسان يكتب: "يتقاضون اجرا جيدا لان الحكومات الغربية تقود بتسديده (المانحون باللغة الاصطلاحية). ويستشهد المراسلون بناشطين محليين في ميدان حقوق الانسان، اكثر من سواهم لأنه-والحق يقال- من المشوق ان تتم الاجابة على اسئلتك. ولكن كلما زاد عدد هؤلاء الناشطين الذين التقيهم، خفت حدة حماستي، بسبب قيامهم بتسليم بطاقاتهم على الفور للتأكد من انني سأنقل اسماءهم واسماء منظماتهم بطريقة صحيحة". مشيرا الى ان: "الاثرياء العرب يهبون بلايين الدولارات كل عام لمنظمات تبشيرية اسلامية ولبناء المساجد، ولكن الناشطين في ميدان حقوق الانسان مستمرون بسبب المعونات المالية الغربية. وتزداد فرص حصولهم على هذه المعونات مع ازدياد شهرتهم، ويمكن للصحافيين الغربيين ان يساعدوهم بالطبع على تحقيق هذه الشهرة. تكون النتيجة مصالح متبادلة بين الصحفيين الباحثين عن اقتباسات جيدة وبين الناشطين في مديان حقوق الانسان الباحثين عن الدعاية".
ناشطو حقوق الانسان، هم جزء مما يصطلح لونديك على تسميته "الرؤوس المتكلمة" الذين يظهرون على الشاشات، معلنا انه فقد الثقة بهم.
ويورد احصائية مؤلمة عن حوادث السير في العالم العربي: "بسبب حالة الطرقات الرديئة في المنطقة، والسيارات المتهالكة، والشرطة الفاسدة، والمستشفيات التي لا طائل منها في هذه الظروف، يزيد احتمال وفاة العربي عن الاوروبي في حادث سير بخمسين مرة. انه حمام دم مستمر في العالم العربي".
انقلاب اخر حدث في نظرة لونديك لعمل الصحافيين في الشرق الاوسط، عندما وصل فلسطين في بداية انتفاضة الاقصى: "في رام الله لاحظت للمرة الاولى كيف تقوم المحطات التلفزيونية بتحديد نظرتك الى الوقائع التي تحجب عنك، وما تراه يترك في نفسك اثرا اكبر مما تتركه مقالات الصحف او البرامج الاذاعية. لقد اوجز احد زملائي الأمر بإتقان: الكلمات تستهدف عقلك، والصور تصيبك في الصميم".
ويتوقف ملياً، وفي اكثر من موضع في كتابه عند ما يسميها ازدواجية المعايير، ويفسرها: "الاستخدام اللاتماثلي للكلمات" ومنها:
*حماس معادية لإسرائيل، المستوطنون اليهود ليسوا معادين للفلسطينيين.
*الفلسطينيون الذين استخدموا العنف ضد المدنيين الاسرائيليين هم ارهابيون، الاسرائيليون الذين استخدموا العنف ضد الفلسطينيين هم صقور او متشددون.
*السياسيون الاسرائيليون الذين يسعون لحل سلمي هم حمائم، ونظراؤهم الفلسطينيون معتدلون، مما يعني في العمق ان كل الفلسطينيين متعصبون.
يستطرد في المقارنة بين الأداء الاعلامي الرسمي الاسرائيلي والفلسطيني في انتفاضة الاقصى، والمقارنة ليست في صالح الأداء الفلسطيني، ويتوقف مثلا عند ما يقول انه خبرا نشرته وكالة الانباء الفلسطينية الرسمية (وفا) عن ان الطائرات الاسرائيلية تلقي حلويات مسممة من الجو، وكيف ان الحكومة الاسرائيلية استغلت ذلك، بشكل موسع في العالم، واستهدفت صحافيين وبرلمانيين، باعتبار ذلك مثالا على ما سمته الحكومة التحريض الفلسطيني، بل للاستنتاج منه ايضا كيفية تعليم الفلسطينيين الكره لإسرائيل.
وينتقد ما يصفه تقصير السلطة الفلسطينية، في القيام بحملات اعلامية، ويرى ان: "الحرب الاعلامية قائمة على القدرة على تسويق الافكار، ان مدى تمكنك من ايصال رسالتك الى المجموعة المعنية هو بأهمية الرسالة عينها. كانت الحكومة الاسرائيلية افضل بكثير في ممارسة اللعبة". وينتقد المتحدثين الاعلاميين الفلسطينيين، ويرى بوجود كفاءات ولكنها لم تأخذ فرصتها بسبب سياسة المحسوبية.
ويختم الكتاب بملاحظات حول ما جرى بعد الفترة التي يغطيها الكتاب (1998-2003) باستنتاج: "ما زالت ماكينات العلاقات العامة للناتو واسرائيل سرية الى حد كبير، ولا تزال لها اليد الطولى في فرض مفرداتها ومبادئها".