بعد أكثر من قرن، على ترسيم الحدود الفلسطينية المصرية، من قبل طرفين ليس لهما علاقة بالفلسطينيين والمصريين، ما زالت هذه الحدود ساخنة كما تظهر أحداث الفترة الأخيرة، والتي تطورت من تفجير الحدود، إلى مواجهات بين متظاهرين فلسطينيين ورجال أمن مصريين. وما يحدث على الحدود طوال هذه الفترة الطويلة، قد لا يكون له مثيلا في أي منطقة في العالم، حتى التي يقف فيها على جانبي الحدود أطراف متعادية ومن قوميات مختلفة. وتم ترسيم هذه الحدود في عام 1906، من قبل العثمانيين الذين كانوا يسيطرون على متصرفية فلسطين، وبين البريطانيين الذين كانوا يحتلون مصر. وجاء تخطيط أول خط هندسي حدودي بين الطرفين، في أعقاب توترات وقتال بين العثمانيين والبريطانيين استمر اكثر من عشر سنوات وتركز في رفح وطابا. وتم ترسيم الخط الحدودي الذي اعتبر تعسفيا من قبل المواطنين العرب على جانبيه، بطول 240 كلم، من راس طابا حتى تل الخرائب برفح. واعتبر المواطنون العرب الذين قسمهم الخط الحدودي آنذاك، هذا التقسيم تعسفيا، لان في واقع الأمر شتت العائلات والعشائر التي هي واحدة على جانبي الخط، بل أن نسبة كبيرة من الذين كانوا يعيشون في بعض المدن الفلسطينية مثل غزة هم من المصريين، أما مدينة يافا مثلا، فنسبة قد تكون غالبة من سكانها من أصول مصرية، وبقي هذا حالها حتى سقوطها عام 1948، لتصبح جزء من دولة إسرائيل الوليدة، وحتى الان فان ما تبقى من حواري يافا القديمة، يذكر بحواري مدينة القاهرة. وسبب أخر للاستياء الشعبي له علاقة بالسياسة، فترسيم الحدود بالطريقة التي تم فيها، والذي عكس ميزان القوة على الأرض بين الإمبراطورية العثمانية الآفلة، والإمبراطورية البريطانية، كان لصالح الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وبموجب هذا الترسيم أضحت بريطانيا تتحكم في سيناء عمق مصر الاستراتيجي. وترافق مع ترسيم الحدود كما يذكر المؤرخ الفلسطيني المقيم في غزة سليم عرفات المبيض ما يسميها هجمة صهيونية على جنوب فلسطين تمثلت عام 1906، بشراء أراض فلسطينية بالقرب من رفح لصالح اليهود، بواسطة قنصلي بريطانيا في القدس وغزة.وترافق معه أيضا تشجيع بريطانيا للهجرة اليهودية إلى فلسطين، حتى وصل عدد المهاجرين اليهود ما بين عامي 1901 و1914 إلى 30 ألف، أي نحو 2% من سكان فلسطين. وما بين عامي 1914-1917، عاشت الناس على الحدود ظروفا مأساوية، وبلغ الجوع في غزة، ومدن فلسطينية أخرى، بسبب الحرب العالمية الأولى إلى أكل لحوم الحيوانات النافقة، وروث خيول الجيوش التركية. وفي عام 1917، أجلى العثمانيون أهالي غزة، استعدادا لمعركة اعتبرت فاصلة مع البريطانيين، الذين تمكنوا من إلحاق الهزيمة بالعثمانيين، لتصبح الحدود الفلسطينية (والبرية الشامية)-المصرية مفتوحة. ومن المثير انه راودت المفكرين والمثقفين الفلسطينيين، في السنوات الأولى للانتداب البريطاني حلم الوحدة مع مصر، أو الانضمام إليها، كخيار افضل من الانضمام إلى سوريا، الذي كان مطروحا آنذاك، باعتبار فلسطين هي جنوب سوريا او سوريا الجنوبية. وسرعان ما أدرك هؤلاء ما اعتبر "خيانة" بريطانيا لوعودها للأحرار العرب الذين ساندوها في مواجهة الإمبراطورية العثمانية. وبالنسبة للسكان على جانبي الحدود، فان الأمر الهام، كان هو استمرار تنقلهم بحرية وذلك "بفضل" الاحتلال البريطاني الذي يسيطر على فلسطين ومصر، ويخطط من القاهرة لإعادة رسم خريطة منطقة الشرق الأوسط، وتطبيق ذلك كما يمكن رؤيته الان. وفي عام 1948، ومع قرار الانتداب البريطاني الرحيل، دخلت الجيوش العربية إلى فلسطين، ومن بينها الجيش المصري، الذي احتفظ بقطاع غزة، بعد قيام دولة إسرائيل. وخضع القطاع لإدارة مصرية عسكرية، ما زالت هياكلها التنظيمية موجودة وتعمل في القاهرة حتى الان، وبرز في تلك الفترة الضابط المصري مصطفى حافظ الذي كلفه الرئيس جمال عبد الناصر بقيادة مجموعات الفدائيين خلف خطوط العدو، وتحول حافظ إلى أسطورة، نظرا لنجاحه المبهر في مهمته، وتمكنت المخابرات الإسرائيلية من وضع حد لهذه الأسطورة، وذلك باغتياله بواسطة طرد مفخخ. ومن المفارقات أن ابنة حافظ التي تطلق على نفسها اسم (نوني درويش) هي كاتبة معروفة في أميركا بتبنيها لوجهة النظر الإسرائيلية، وتدعى بانتظام لزيارة إسرائيل. وخلال الإدارة المصرية لقطاع غزة، شهدت الحدود المفتوحة حركة لا مثيل لها ومتنوعة، من حركة الناس، إلى السياسيين، إلى رجال الأمن، الذين كانوا ينقلون النشطاء الفلسطينيين من أخوان مسلمين وشيوعيين إلى المعتقلات، كلما شنت السلطات المصرية حملات على أخوان وشيوعي مصر. وتمكنت إسرائيل، خلال ما سمي حملة سيناء الأولى (1956-1957) من اجتياح الحدود، واحتلال غزة وسيناء، لتخرج منها بعد اشهر. ولم يكن ذلك إلا بروفة لما حدث بعد ذلك بعشر سنوات، عندما تمكنت إسرائيل من اجتياح الحدود مرة أخرى، واحتلال غزة وسيناء، وارتكبت ما اعتبر مجازر ضد أفراد الجيش المصري المتقهقرين. وعادت الحدود الفلسطينية-المصرية من جديد مفتوحة، وهذا المرة بسبب الاحتلال، الذي استمر حتى مبادرة الرئيس المصري السابق أنور السادات، بزيارة إسرائيل وإبرام اتفاقية سلام معها. ونتيجة هذه المعاهدة تم ترسيم الحدود من جديد، ومعها قسمت مدينة رفح من جديد، وقسمت بالتالي العائلات الفلسطينية والمصرية التي تسكن على جانبي الحدود، وحتى داخل الحدود المصرية بقيت مخيمات للاجئين الفلسطينيين اتفق على إعادتهم بالتدريج إلى رفح الفلسطينية. وخلف التقسيم ظروفا انسانية صعبة جدا وسط السكان، ما زالوا يعانون من ذيولها حتى الان، ولسنوات طويلة مقبلة. ولم تسلم إسرائيل طابا، إلا بعد عشر سنوات من المفاوضات الشاقة، وتم ذلك بترتيبات أمنية إسرائيلية، وهو ما حدث أمر مشابه في سيناء وهو المعمول به في المنطقتين حتى الان. وتحولت إسرائيل إلى المتحكم الأول بالمعابر السبعة التي تربط غزة بإسرائيل ومعبر رفح الذي يربط غزة بمصر، وكان لها وحدها حق السماح لمرور أي فلسطيني، وأيضا حق المنع. وطرحت مسالة الحدود من جديد، مع خطة الانفصال أحادية الجانب عن غزة، التي طرحها رئيس وزراء إسرائيل السابق ارئيل شارون عام 2005، ومعها ارتفعت المطالبات الإسرائيلية بتحمل مصر المسؤولية عن أي خرق يحدث للحدود. ودرست إسرائيل عدة اقتراحات أمنية مثل استحداث بحيرة أو بركة أو حاجز مائي عند رفح، وتعزيز الجدران والاسيجة، وفي النهاية تم التوصل إلى اتفاق لادارة الحدود وتنظيم معبر رفح، بمشاركة فلسطينية ومراقبة أوروبية، وإشراف أمني إسرائيلي. ولم تسير الأمور بشكل روتيني على معبر رفح، وكان يغلق بشكل مستمر، حتى تم إغلاقه نهائيا مع سيطرة حماس على قطاع غزة في شهر حزيران (يونيو) الماضي. ويتصدر ما يحدث في هذه الأيام على الحدود المصرية-الفلسطينية، الأنباء العالمية، بعد أن ازدادت سخونة، وهو أمر ليس غريبا عليها ويحدث منذ اكثر من مائة عام على الأقل، وخلال كل ذلك فان السكان العرب على الجانبين هم من يدفعون الثمن.
http://www.elaph.com/ElaphWeb/Politics/2008/2/301790.htm
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق