بدت الحاجة معزوزة
الكواملة، يوم 24 تموز الماضي، بشوشة ضاحكة، زاد من ارتفاع معنوياتها، احتفاءها
بالإفراج عن حفيدها من سجون الاحتلال. بقي حفيد آخر خلف القضبان. تبدو
التسيعينيَّة التي تعيش في منزلها المؤقت في مخيم العروب على شارع القدس-الخليل،
وكأنَّها لم تغادر قريتها زكريا في الهضاب الوسطى، التي غادرتها فعلًا عام النكبة
ولم تبلغ العشرين عامًا. حدَّثتني عن كثيرات ومن بينهن عمتي عائشة: "رأيتها
ترقص في عرس أبو دحيلة".
-من أبو دحيلة هذا؟
*من عائلة العيسة،
تزوَّج فهيمة ابنة رضوان أبو جودة. أقيم العرس في مكان واسع. أتذكَّر رقصة عائشة
فرحة، بفرح العروسين. الجميع نكبوا وغادروا البلد.
عمتي عائشة، كانت مصدري
الإثنوغرافي المهم عن قريتنا، استفدت منها في قصصٍ أولى. هي أيضًا من نبهتني إلى
مقام السايحة في قريتنا، تلك القديسة بوجوهها الكثيرة. بعد أكثر من أربعين عامًا
من النكبة، ستصبح السايحة، بالنسبة لعمتي عائشة هي فاطمة ابنة الرسول العربيِّ،
وفيما يلي ما اقتبسته عنها في مجموعتي القصصيَّة إنثيالات الحنين والأسى:
"مقام فاطمة ابنة الرسول له السلام وله البركات.. تقصدها نساء البلد ويسمينها
السائحة.. تنذر الواحدة منهن وتشعل سراج الزيت الفخاري في المغارة المعتمة شرق
البلد.. الشجر أمامها يصدم الوجوه. لم يكن زحيفاً ولا مرمية.. إنما عذقا يفرش
ويجلل السائحة في أرض الله الواسعة حزنا على أشرف الخلق".
لا يرغب الأحفاد،
عادة، في معرفة ما يجب معرفته خلف الصور العطرة لسِير الجدات الشريفات، ولكن
بالنسبة لجدتي السايحة (السائحة)، سيختلف الأمر ونحن إزاء نموذج محلي لـ
"ليليث" في ميثولوجيا الشرق القديم. إنَّها فاطمة البري، قاهرة الأقطاب،
أمّا حفيداتها أمثال عمتي، فسحن في الأرض منكوبات، ورحلن عن دنيانا وهن يحاولن
لملمة ما تبقى من عالمهن، الذي اندثر بسرعة.
رقصة عمتي في عرس
المكرَّم أبو دحيلة، ضاعت في ذاكرة العمة وحلَّ محلها رقصات أخرى في حلقات النواح الكربلائيَّة
والأدونيسيَّة على شبَّان العائلة الَّذين قضوا قبل الأوان، كإبنها البكر، الذي
رحل في السويد، وقبلها كان مطلوبًا سياسيًا، أو العاشق الذي أحرق نفسه عربونًا لحبه،
أو المعلِّم الذي قضى شهيد التعليم بأوبئة الجزيرة العربية. وبينهم حلقات الرقص
الطقوسي، حزنًا على عبد النَّاصر، عندما تجمعت نساء المخيم، في ساحة قبالته،
ليقدِّمن ماء العيون، لفقيد القوميَّة. ثلاثة أيَّام أو سبعة، رقم مفرد قدسية
الشرق القديم المستمر.
عندما روت لي الحاجة
معزوزة، رقصة عمتي في قريتها التي ماتت بعيدة عنها، تخيلت السمندل راقصًا، الذي
اختلف العرب في صنفه، بالنسبة للجاحظ، فإنَّه "يسقط في النَّار فلا يحترق
ريشه"، أمَّا بالنسبة للعمري وآخرين، فهو طائر يعشش في جبل النَّار، يدخل النَّار
ولا يحترق، ثم يخرج وقد ذهب وسخه، وزاد بريق لونه وصفاؤه. السمندل تصقله النيران.
#قرية_زكريا
#مخيم_العروب
#أطلس_الخالات
#أسامة_العيسة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق