قبلة بيت لحم الأخيرة
(2016) للروائي الفلسطيني أسامة العيسة. قرأتها بنسخة ورقية
"كلنا أجيال بلا
ذاكرة، نظن أن التاريخ يبدأ من هنا." (ص246)
"وأنا كنتُ
بحاجة لأن أستمع، وأستمع، لأن أصدّق أن نصف عمري كان شيئًا حقيقيًا، ارتبطت به هذه
المدينة (بيت لحم) وتفاصيلها، درست في جامعتها، وسجلَت جدرانها همسات حبنا أنا
وسميرة، وأمضيتُ طفولتي بين أزقتها وسوقها وسينماتها، ونفذت عملًا نضاليًا في
شوارعها، وها أنا أعثر على واحد من زمني، أنا شاهد على زمنه، وهو دليل زمني."
(ص247)
بين العبارة الأولى
والفقرة الثانية، تتلخص رواية "قبلة بيت لحم الأخيرة"، فالذاكرة هي كل
ما سبق لحظة لقاء رائد الحردان بحب حياته سميرة، بعد خروجه من السجن الذي قضى فيه
20 عامًا.
أسمته والدته حنّا
تيمنًا بجد الراهب الذي عمّده في كنيسة المهد، لاعتقادها بأنها تحميه من شرّ
قرينته، وعن ذلك يقول رائد "كنت في المدرسة نهارًا حنّا وبعد الظهر في البيت
والحارة والسوق رائد، في أحيان كثيرة لم أعرف متى أكون حنّا الحردان؟ ومتى أكون
رائد الحردان؟"، وفي زمن التحولات ندمت الأم لأن شيخة أفتت لها بحرمة هذا
العمل، ويتقاطع هذا مع حوار رائد مع صديق مسيحي، بعد تحرره أو ربما دخوله سجنًا
آخر حين قال له "متى كنّا أطرافًا يا جريس؟" ص260
رائد شاب فلسطيني
جامعي مجتهد جدًا في دراسته "لأن سلاح الفلسطيني الوحيد علمه" كما يقول
والده، وهو "نسناس" برأي الطلبة الحزبيين الذين نشطوا في الحركة
الطلابية أوائل الثمانينيات في جامعة بيت لحم، لكنه الجندي المجهول الذي يكتب
لسميرة بياناتها السياسية، فهي حبيبته، وفي ذات الوقت إحدى قيادات الحركة الطلابية
النضالية في الجامعة، التي لا ترضى إلا بفلسطين كاملة، غير مجتزأة، و"ستحرر
فلسطين" يومًا ما، كما قال رائد بنبرة ساخرة وفي تالي الأيام قدّسها لفكرها
حتى في خصامها، وهي التي فقدت إحساسها بجسدها بعد تعرضها للتعرية والإذلال في أحد
السجون الإسرائيلية، ثم في ما بعد، تركت رائد، ببساطة هكذا، قررت إنهاء العلاقة،
وهو رضخ لرغبتها دون جدال.
اجتهد رائد في البحث
ونبش تاريخ مدينته ومن مر عليها من مستعمرين وقادة ومناضلين، من فنانين وسياسيين،
يستذكر سميرة مع كل امرأة ينبش تاريخها، خصوصًا القويات من النساء، صاحبات المبادئ
والقيم العليا، المعشوقات القاهرات مثل روكسلانة زوجة السلطان العثماني سليمان،
صاحب الألقاب الكثيرة والكبيرة.
معلومات كثيرة وأسماء
ووقائع تاريخية مهمة وهامشية أو مغيّبة، هي ما جعل من بيت لحم، المدينة التي نراها
اليوم، التي يقصدها السوّاح ويعود إليها المنفيون وأبناء الجيل الثاني والثالث من
المهاجرين ويتعلّق بها الغرباء الذين يصبحون مع الوقت جزءا منها، ويبقون فيها حتى
لفظ آخر نفس، قتلى أو موتى أو أجسادًا متطايرة الأشلاء (الطبيب الألماني هاري
فيشر).
لماذا هذه المعلومات
كلها؟ لماذا هذا العرض المتتابع والمتسلسل لأشكال النضال الفلسطيني ضد الاحتلال؟
من خلال رائد قبل السجن وأبو العبد داخل السجن، والتحولات عبر رسائل محمدوف خارج
السجن، الذي كان نافذة رائد على العالم خلف القضبان؟ ربما هو النفي المستمر لفكرة
أن "التاريخ يبدأ من هنا" المذكورة أعلاه، وأيضًا في ص61 بصيغة مختلفة
"كل جديد يرتكب حماقة هدم ما سبقه وإلغائه"، فمن يلغي التاريخ من السهل
عليه نسيان المجد والتضحيات واللحمة الشعبية، من السهل التفرقة والانقياد، وماذا
لو كان الموضوع أكثر حديّة بحيث يكون الذي ينسى كان هو نفسه جزءًا من ذلك التاريخ
(مثال سميرة وحمدان الأحمر واليسار الذي غرق في الNGOs والباجيرو"؟ هذا ما لم يستطع رائد تحمّله وتفسيره أو حتى
إيجاد مبرر مقنع له يجعله يمشي ويتجاوز كغيره من الذين تجاوزوا وصمتوا.
الحكايات مترابطة
ومتواصلة ضمن مسار الرواية، فإذا ظننت أن حكاية السينمائي ميغيل ليتين مثلًا،
تنتهي في ص54 واكتفيت، أخبرك أن "بعض الظن إثم"!
أنا بكيتُ كثيرًا على
رائد بعد خروجه من السجن وحين قرأت حواره ومشاعره التي سردها خلال لقائه بسميرة،
بكيتُ عليه صحيح، ولكن ما الفرق بيني وبين كل الذين أبكوه؟ أنا والكثير مثلي الذي
استسلم وتجاوز وخلق لنفسه مبررًا لكي يتمكن من العيش وألا "يموت على
الهامش" كما هو مبرر سميرة!؟ ما الفرق؟!
قالت أختي يومًا
"موت أبي في أول التسعينيات (قبل أوسلو) كان لصالحه، أستطيع تخيّل ما سيعانيه
إذا عاش التغييرات!" وأبي لم يكن مقاتلًا أو سياسيًا، كان أستاذًا في مدرسة
ابتدائية تقاعد مبكرًا وتفرّغ لفلاحة أرضه، أعتقد بعد قراءة سيرة رائد، صار من
السهل علي تخيّل غربة الأسرى الذين مروا بتجارب مشابهة له!