عشية حلول العام الستين لنكبة 1948، لا يزال الفلسطينيون في الجليل يعيشون كمواطنين من الدرجة الثانية في قرى ومدن مزدحمة، يكاد يكون أفق تطورها العمراني معدوما، ويخوضون معارك للدفاع عما تبقى من أرضهم. ويقول المتابعون، بأن مخططي الاستيطان الأوائل، لم يهدفوا فقط الى منع تمدد التجمعات العربية، بل الى محاربة الحيز الذهني والثقافي لسكان البلاد الاصليين، وجعلهم مجرد مجموعات تسكن كانتونات، وتنشغل بهمومها الصغيرة. لكن كيف يعيش هؤلاء المحاصرون بعد 6 عقود من حرب الأرض والهوية؟
تشكل بلدة «عبلين» نموذجا لقرى الجليل المزدحمة بالسكان، حيث يسكن نحو 10000 نسمة من المسلمين والمسيحيين، ووصل سعر دونم الأرض لأرقام مرتفعة جدا كما يقول احد أبنائها، مفيد قسوم، وهو مثقف قومي راديكالي انهى دراسة الدكتوراه في اميركا.
ويضطر السكان للبناء في القرية متجاورين ومتلاصقين. ويقول قسوم: «تمت مصادرة المزيد من الأراضي لمنع العرب من التطور وفق خطط مدروسة». ويشير إلى خطة تهويد الجليل، التي تعود إلى عام 1974، عندما تم الكشف عن «وثيقة كنج»، التي تضمنت توصيات أهمها ضرورة نشر اليهود في الجليل بأي ثمن، لأن بقاء أغلبية عربية يعني أن تكون لهم مطالب سياسية مستقبلية مثل الانضمام إلى سورية أو لبنان أو إلى كيان فلسطيني يمكن أن ينشأ في الضفة الغربية. وعرفت الخطة بتهويد الجليل، ورعاها البروفيسور رعنان فايتس، ابن يوسي فايتس الذي اشرف على «تنظيف» مدينتي اللد والرملة من العرب عام 1948. ومصطلح تنظيف، رائج في الادبيات الصهيونية التي تتحدث عن التطهير العرقي الذي تعرض له الفلسطينيون. ويتعرض البروفيسور ايلان بابيه، احد اكثر المؤرخين الاسرائيليين الجدد ألمعية، الى اضطهاد بسبب كتابه الاخير «التطهير العرقي في فلسطين» الذي اكد فيه وبعلمية، ان ما حدث في ذلك العام المفصلي، كان تطهيرا عرقيا. وحسب قسوم فإن رعنان فايتس قال انه مهما كان ثمن تهويد الجليل يبقى صفرا أمام ما يسميه «الانفجار السكاني العربي»، وأكد على ضرورة رصد كل الإمكانات للسيطرة على الأرض. ويضيف قسوم «يهدفون إلى سحق الحيز الذهني للفلسطينيين أيضاً. فالهجمة تشمل التسميات العربية للقرى كما المفاهيم والمصطلحات. ومع ظهور وثيقة كنج، وصل عام 1975 توفيق زياد إلى بلدية الناصرة على رأس قائمة وطنية، وشجع ذلك، كما يقول قسوم، «جهات عربية عديدة لتأسيس لجنة الدفاع عن الأراضي. وهو دفاع وصل ذروته في يوم الأرض الخالد، حيث سقط الشهداء من مثلث قرى مكون من سخنين، وعرابة، ودير حنا دفاعا عن الأرض».
لكن يبدو ان المقاومة العربية للاستيطان في الجليل، لم تفلح في منع إقامة المزيد من المستوطنات، التي تشبه إلى حد كبير ما يجري في الضفة الغربية. فالزائر يشاهد قرى ومدنا عربية محاصرة بالاستيطان من كل جانب، وهي غير الصورة المنطبعة في الاذهان عن الظروف التي تعيشها الاقلية العربية في اسرائيل.
وما بين بلدات عبلين وطمرة وكوكب أبو الهيجاء وجبال البطوف، هناك مستوطنات وأراض مغلقة ممنوع فيها الرعي. ولكن هناك في كثير من المستوطنات جيوب عربية لمواطنين صمدوا في وجه الاستيطان. ويمكن ان تكون قصة كل واحد منهم، ملحمة متفردة، في صراع طويل وقاس. الاختلاف كبير بين القرى العربية والمستوطنات اليهودية، حيث الأخيرة مبنية على الطراز الأوروبي. ورغم ان العرب في الجليل يحملون الهويات الإسرائيلية، فانه لا يمكن القول بشكل قاطع بوجود تطبيع بينهم وبين ساكني المستوطنات التي تغلق عليها الأبواب وتحاط بالأسلاك الشائكة، وكأنها لا توجد في دولة اسمها اسرائيل، بل وتطالب الطرف الفلسطيني، الاعتراف بيهوديتها، كما جرى عشية مؤتمر انابوليس.
وعن ذلك يقول قسوم وهو يقف، معنا، بالقرب من مستوطنة أقيمت على قمم جبال قرية عربية مهدمة تسمى (معار) «أنهم يعيشون في غيتو، وهذا ليس من قبيل المبالغة. المستوطن في الجليل لا يمكن ان يعيش من دون جدار كهربائي، فهم يشعرون أنهم أخذوا أرضا ليست لهم». ويشير إلى السهول والجبال المغلقة في وجه الرعي قائلا «هذه كانت ملاعب طفولتنا، المستوطنات تغتال الطفولة». ويبدو أنه كان من سياسة الاستيطان في بعض مراحله إدماج المستوطنين بمحيطهم الشرقي. ويمكن لمس ذلك من نموذج مستوطنة (متيس افيف) التي أقيمت على أراض مصادرة، حيث صممت بيوتها لتشبه البيوت العربية، وتمت الاستفادة من نظريات المهندس المصري الراحل حسن فتحي في العلاقة بين البيئة والبناء.
ولم نتمكن من الاقتراب أكثر من هذه المستوطنة، لمعرفة كيف استفاد اليهود من فكر حسن فتحي، الذي لاقت أفكاره في بلاده نكرانا، وتحولت إحدى القرى التي صممها إلى سجن. وتهدف سياسة الاستيطان إلى مصادرة احتياط الأراضي التي يمكن ان تشكل مجالا لأي تطور ديمغرافي للإنسان العربي في أرضه.
يقول قسوم «يجمع مستوطنات منطقة الجليل المركزي مجلس إقليمي يسمونه (مسجاف) ويسيطر على نحو 700 ألف دونم في حين لم يزد عدد سكان المستوطنات عن 10 آلاف مستوطن، اما العرب فلا يجدون أرضا يبنون عليها مساكنهم».
ويضيف «المصادرة لبناء المستوطنات، بل ولبناء مصانع عسكرية لاستيعاب الكفاءات التي هاجرت من الاتحاد السوفيتي السابق، وأيضا لإغلاق مناطق الرعي بهدف إبطال إمكانية تطوير اقتصاد عربي ولو خفيف مثل إنتاج الألبان من المواشي».
تعتلي قرية كوكب أبو الهيجاء إحدى قمم جبال الجليل، وتطل على أفق جميل يكشف عن بيوت حيفا والبحر الأبيض المتوسط، يبلغ عدد سكان القرية نحو 3 آلاف نسمة ويمكن ملاحظة أشكال البناء المتناسقة في القرية والشوارع العريضة، والنظافة الفائقة، مما يجعلها نموذجا متفردا بين التجمعات العربية في الجليل.
وفي أعلى منطقة في القرية يوجد مبنى المجلس المحلي، وأمام المجلس نصبت تماثيل أنجزها فنانون عرب ويهود وأجانب تعبر عن هموم مختلفة، وخلف الساحة التي تحتضن النصب يوجد سياج فاصل.
يقول قسوم لماذا يوضع هذا السياج، هل تنتهي هنا حدود القرية؟
ويحب قسوم ان يطلق على القرية والمنطقة التي توجد بها سويسرا العالم العربي، مؤكدا انه لم ير أجمل من هذا الموقع، رغم زياراته المتعددة وإقامته في دول أجنبية. ويدعو قسوم إلى قيام حركة للشباب العربي تعمل لبناء قرى نموذجية في الجليل على الأراضي التي تسمى أملاك دولة. ويقول «هذا حقنا، الأرض أرضنا وليس من المعقول ان نعيش في غيتوات».
وقسوم يغمز من قناة القيادات العربية في إسرائيل، مطالبا بنضال مستمر لاستعادة الأراضي العربية التي تندرج تحت مسمى (أملاك دولة)، مشيرا إلى ان ما يحول دون ذلك هو حرص هذه الزعامات على مناصبها وتخوفها من «نضال حقيقي» يمكن ان يعصف بالمكاسب التي حققتها. وتعيش أكثرية عرب إسرائيل في الجليل، ويعدون نحو 700 ألف نسمة في حين يعيش في المثلث 250 ألفا وفي النقب 100 ألف نسمة (احصائية غير رسمية).
وقريبا من كوكب أبو الهيجاء، ومن وسط غابة جميلة يمكن مشاهدة احد أروع المناظر الطبيعية التي يجسدها سهل البطوف المعروف، الذي تبلغ مساحته 33 ألف دونم، ويعود لعدة قرى. هذا السهل يعاني مثل أصحابه، فعلى الرغم من مرور مشروع المياه القطري الإسرائيلي منه، إلا انه يعاني العطش، وبعد ان كان يشتهر بالبطيخ وشمندر السكر، لا ينتج إلا محاصيل بعلية تعتمد على المطر، الذي أصبح يخلف موعده كثيرا، لأناس صار الانتظار سمة حياتهم.
http://www.asharqalawsat.com/details.asp?section=19&issue=10599&article=448396
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق