تفقَّر قاموس أمي
التشبيهي، بعد النكبة، منذ توقفها قسريًا، عن أن تظل فلَّاحة، باستثناء تشبيهات،
أصبحت، إذا أخذنا بمعايير شيخنا الجرجاني، مبتذلة. أشهرها الوصف الَّذي تحاول،
إضفاء جرعات دراماتيكية عليه ليشعر الولد النحيل، بعقدة ذنب:
-عصبانك، مثل عصبان
أبو سعد!
كانت ترى ذلك الطير
الحزين، في سهوبنا الممتدة، في أيَّام الخير، يلقِّط رزقه، مما يخلفه الفلَّاحون،
ومناجل الفلَّاحات، أيَّام الحصاد. سهل قريتنا واسع وممتد، يغذيه نبع الماء المسمى
البئر السفلاني، أمضيت فترة العام الماضي في اكتشافه، يستغل المحتلون الآن سهل
قريتنا، بجلب عمالة أسيوية لزراعته.
كانت الواحدة منهن، تحصد، في أيام المخاض. روت
لنا الأمهات، حكايات البطولة في ولادة الحاصدة، وهي في السهوب، تدفع للدنيا، مخلوقًا
جديدًا، وهي تقطع الحبل الذي يربط الجنين بعالم ما ورائي، وقد تعود للحصيدة من
جديد!
استعانت اللاجئات، بتشبيهات
ما بعد النكبة، من التشبيهات الأثيرة في مخيمنا، أن تقول الأم لأبنها المشرتح:
-شكلك مثل حربي النُوري!
أكاد أسمع الآن
تشبيهات نوريات مخيمنا، يؤنبن أولادهن:
*صرتم مثل أولاد
اللاجئين، لا مظهر، ولا محضر!
لا أعرف ما هو مصير
حربي النُوري، الذي قطن، قبالة المخيم، يفصله عنه شارع القدس-الخليل. عمل في سَن
السكاكين، والحدادة. جزء من النور، الذين يسمون في مصر: غجر، وفي سوريا: قرباط. عملوا حدَّادين. في عام 1806م
بدأ الرحالة سيتزن بدراسة لغة نَوَر فلسطين، ونشر نتائجه عام 1854م. بدأ من نَوَر نابلس الذين يعملون
حدَّادين، وواصل إلى القدس. نجح سيتزن في إعداد معجم نَوَري شمل أجزاء الجسد، والطعام،
والمناظر الطبيعيَّة، والحيوانات، والنباتات، والفواكه، ومصطلحات الزمن، والمواد
الخام، والإنسان والأعداد. لاحظ سيتزن تأثر لغة نور فلسطين باللغة العربيَّة، وقرب
قواعدها من اللعة السنسكريتية. في بداية الألفية الجديدة، حلَّل ماتراس لغة غجر
القدس، ساعد ذلك، وفق الكساندرا بارس صاحبة كتاب: الغجر في مصر المعاصرة (المركز
القومي للترجمة 2023م)، في جعل غجر القدس موضوعا ملموسًا للدراسة. لكن بالنسبة
لناسنا، فأصغوا إلى ما يمكن أن ينتجه نور بلادنا من معرفة.
لم يكن التعريض، بالنَّوَر، من قبل اللاجئات،
يُظهر دائمًا تعاليًا، حتَّى لو كان هشًا. أذكر عندما كانت تسمع الموسيقي جميل
العاص، من الإذاعة الأردنيَّة، تهمس مبتسمة:
-هذا من نَوَر وادي
الجوز، صار النَّوَر وتصوَّروا!
أستمعت، على
اليوتيوب، لشهادة الكاتب الراحل رسميِّ أبو علي، عن نكبة قريته المالحة، قائلًا،
إن جميل العاص من نَوَر قريتهم. يعزى لعمر الصالح البرغوثي اكتشاف العاص الَّذي
عمل في مكتبه، لكنَّني لم أجد في مذكراته الضخمة التي صدرت بعنوان المراحل، ومُنعت
في عمَّان، إشارة لذلك.
اشتهر العاص، ببزقه،
وتجنده، في تشكيل الجانب الموسيقي في الهوية الأردنيَّة. يقول في لقاء مع المذيع
حكمت وهبي عام 1985م، إن النَّوَر هم من أدخلوا البزق إلى بلاد الشام، وهم يتنقلون
مرتحلين في بادية الشام. أشهر ألحان العاص، أغنية يا طير يا طاير، التي اشتهرت
عربيًا، عندما أدَّاها محمد منير، ولكنَّها مبتسرة، أقل ثراءً من اللحن الغجريِّ
للعاص.
لا تبدو الأغنية،
أنها تمد نسبًا للفلكلور الفلسطينيَّ أو الأردنيِّ، كأغنية يما مويل الهوا، التي
أدَّاها منير أيضًا، ولم أجد لها أصلًا فيما جمعه روَّاد الفلكلور الفلسطينيِّ خلال
فترة الانتداب. يؤدي العاص الأغنية الشجية، وهو يتراقص، ملوحًا ببزقه، كأنّه راقص
فلامنكو وحوله فتيات يرقصن مطوحات شعورهن الطويلة، فاردًا يديه، كأنَّه يحاول
أمساك صدى الغجر الأسبان، وحزن لوركا، عندما لم يعد يرى الغجر يصعدون التلال!
#قرية_زكريا
#مخيم_الدهيشة
#جميل_العاص
#أسامة_العيسة