منذ
العتبة الأولى لهذه الرواية، أقصد منذ عنوانها الرئيس، نلتقط عنوانين مهمين في
العنوان الأساسي "بنت من القدس الجديدة"، ففي العنوان ثمة بنت، وثمة اسم
المدينة "القدس الجديدة". وحين ننتهي من قراءة الرواية، بنهاية مأسوية
بموت البنت (صالحة، لنلحظ رمزية الاسم ودلالاته)، واختفاء المدينة "التي فقدت
اسمها وأصبحت القدس الغربية، يقطنها غرباء"... نكتشف الرابط بين بطلتين
رئيستين في الرواية، هما البنت والمدينة، الرابط المتمثل في المصير المشترك
بينهما. بطلتان تتناوبان على مركزية السرد و"البطولة"، بطولة سلبية
بالطبع، تنطوي على الكثير من المعاناة لكل منهما... مع وجود شخصيات واقعية وحقيقية
تحتل مكانة في حوادث الرواية ووقائعها. وهو ما سنلمسه في الرواية عبر الوقوف على
بعض أبرز معالمها ومكوناتها ومحطات منها.
في
رواية أسامة العيسة هذه "بنت من القدس الجديدة"، تتكون من 28 فصلًا أو
مقطوعة (دار المتوسط، 2025)، وقريبًا مما فعل في روايته السابقة "سماء القدس
السابعة" (المتوسط أيضًا، 2023)، ولكن بعيدًا عنها أيضًا، نقف على مدينة
القدس، من خلال قضية الفتاة (صالحة، ابنة حي البقعة، الجميلة، والمثقفة،
والمتمردة)، وهي قضية تبدو هامشية أو ثانوية في مجتمعنا الذكوري، لكنها في الواقع،
وكما تتعامل صالحة معها، قضية اجتماعية مركزية، وهي قضية فقدان الفتاة عذريتها
بفعل شاب غير مسؤول، وإن كانت "حكايتها"، كما جاء في نهاية الرواية،
تحيل على مسؤوليتها هي (صالحة) أيضًا، عن فقد بكارتها، ولكنها تبرر ذلك بالجو الذي
جرت فيه عملية فض البكارة؛ الغناء وعازف البزق النوري (الغجري) والحاصدات في
الحقول.
نهاية
الرواية وبداية القصة
حين
نصبح على العتبة النهائية للرواية، نكتشف أن صالحة، كما يأتي على لسانها، قد أسلمت
نفسها إلى الشاب المتهور محمد حنا الذي جاء به والدها ليعلمها قواعد اللغة العربية
(بعض المسيحيين يطلقون اسم محمد على أبنائهم في بعض الحالات)، منذ سمحت ليديه
بالاشتباك مع يديها وكتفها، ثم وضع رأسها على كتفه، وتبادل القبلات، وصولًا إلى
"الخط الأحمر" ومحاولتها الانسحاب ولكن بعد أن "وقعت الفأس في الرأس"،
كما نقول في أمثالنا... حيث كان قد وقع المحظور. والغريب في أمر صالحة إصرارها على
اللجوء إلى القضاء للحصول على حقها "ثمن البكارة" التي لا تقدر بثمن،
أمر أثار سخرية الناس والقضاة، لأنه ليس من عادات بلادنا ومجتمعاتنا.
لكن
القدس تغيرت، ففي سياق التعريف بمجتمع القدس، يلقي الروائي نظرة على فتيات المدينة
ونسائها من خلال قصيدة للشاعر إسكندر الخوري البيتجالي يعرض فيها أخلاق بنات القدس
المتأثرات برياح ضربت المدينة: "بارزات النهود حمر الخدود/ عاريات الصدور ضمر
القدود/ يتخطرن في الشوارع تيهًا/ بحلي من أساور وعقود/ وبرود شفافة من حرير/ شف
عما اختفى وراء البرود". ونعثر في الرواية على بيوت دعارة ومظاهر فساد جعلت
من المدينة مدنسة، وهو ما يلفت إلى سعي الكاتب للوقوف على هذه المظاهر، خصوصًا في
عالم القضاء... مستعيرًا شيئًا من لغة الأسلاف التراثية في وصف بعض فئات المجتمع،
من "المجانين، الهبل، الحمقى، والنوكى"...
الوثائقي
والتاريخي
وقد
فتح الروائي الأبواب ليدخل عوالم عجيبة وغرائبية، حين راح القاضي يبحث في كتب
القضاء عن حالة مشابهة ليقيس عليها (يكتشف القاضي، بين ما يكتشف، قضايا دعارة في
ملفات محكمة في عام 1545 م والقرن السادس عشر ميلادي)، ولكن القاضي لا يجد قضية
مشابهة. وسنتعرف في نهاية الرواية على بعض مراجع الروائي ومصادره التي اتكأ عليها
لكتابة روايته، هذه الرواية التي تجمع الوثائقي التاريخي، الحوادث الواقعية، فضلًا
عن المتخيل- الأنموذجي كما تجسده حكاية صالحة ومصيرها. ولجهة هذه المصادر والمراجع،
يذكر منها الروائي ما يسميها "استهداءات"، وهي: بحث للدكتور محمد علي
مصطفى العلمي عن قضاة القدس الشريف ومجالس حكمهم، و"تاريخ القضاء والإفتاء في
بيت المقدس" لبشير عبد الغني بركات، و"يوميات خليل السكاكيني" (8
مجلدات).
وفيما
يتعلق بـ"بطولة" المدينة، فهي تتجسد في مظاهر عدة، أبرزها ما يعرفه
الكاتب ويرويه عنها على لسانه حينًا، فهو يتخذ موقع الراوي على نحو مباشر في بعض
المقاطع، بل يحضر بصفته "كاتب/ راوي المجانين"، وما يرويه على لسان
صالحة وآخرين حينًا آخر. وهو يستعين في ذلك بمشاهداته ومعلوماته وقراءاته عن المدينة
التي لا يتردد في وصفها بالمدينة "المقدسة المدنسة"، وتكرار هذا الوصف
في غير موقع من الرواية، وفي سياقات مختلفة منها.
هجرة
وغائبون وأملاك مصادرة
القدس
مدينة منكوبة قبل نكبة عام 1948 وبعدها أيضًا، وذلك من خلال هجرة بعض أهلها
الأثرياء، إلى أنحاء عدة من العالم، وخصوصًا إلى مصر، حيث نستمع إلى (صالحة) تتحدث
عن إقامتها هي ووالدها وبعض الفلسطينيين في أحياء مصر الراقية، ويتبع ذلك حديث عن
مصادرة بيوت الغائبين وأملاكهم من قبل الوكالة اليهودية، ومنحها إلى اليهود
المهاجرين. وفي السياق يجري الحديث عن مصادرة المكتبات العربية، أو إتلافها، ومن
ذلك مصادرة مكتبة خليل السكاكيني التي تحتوي آلاف الكتب من مجلدات ووثائق في
تخصصات نادرة... فضلًا عن مكتبة والد صالحة (تحتوي على آلاف العناوين)، وكتب مهداة
له من كتاب عرب تركوا مؤلفاتهم بتوقيعاتهم من أمثال العقاد وطه حسين وغيرهما،
وإضافة إلى مكتبات ومحتويات الجيرمن كولوني والغريك كولوني.
وبينما
صالحة تواجه ما تبقى من أيامها، وتفكر في العودة إلى القدس الشرقية، بعد ضياع
الغربية، تسمع أن محمد حنا قُتل بنيران العصابات الصهيونية، أي أن قضيتها قد
انتهت، وتكون نهايتها الأولى بإيداعها في دير للمجانين في بيت لحم، مدينة مجانين
فلسطين، كما يحب الكاتب أن يسميها، وهو المتخصص بكتابة تاريخها وحوادثها وشخوصها.
وفي دير المجنونات، قسم العاقلات، تغدو صالحة راوية "حكاءة" محبوبة لدى
النزيلات، تروي حكايات تجمعها من هنا وهناك، وترويها وتعيد روايتها. بل كتبت عددًا
من المفكرات تروي فيها يوميات وحوادث، مفكرات آلت إلى الخباز "أبو
ميلاد"، المهجر من الكرك لأسباب قبلية تتعلق بالثأر، ومن آلت إلى الكاتب الذي
لا بد أنه أعاد صياغتها بوصفها واحدة من حكايات مجانين القدس.
في
فصل بعنوان "إسراطين في زمن التايمزيين"، وما بين الجد والهزل، يظهر في
الرواية تيار علماني يحضر فيه والدها، وتحضر أسماء من التيار اليساري القومي
والشيوعي، ويصدر صحيفة شعارها "حرية، إخاء، مساواة"... تيار يبرز من
خلال صدامه مع العثمانيين ومع المجتمع. ومن بين مقترحاته اشتقاق، أو اختراع
"إسراطين" من إسرائيل وفلسطين... ويعرض لما جرى في تاريخ فلسطين من
غزوات وفتوحات باسم كتاب الدين، وينادي بدولة علمانية لجميع سكانها، سابقًا مشروع
القذافي وكتابه الأخضر واقتراحه الشهير. وفي سياقات أخرى سوف نلتقي بصالحة
ولقاءاتها بالصحافي الشاب إميل حبيبي، ونقرأ عن نجيب نصار وكثيرين غيرهما من بين
شخصيات واقعية.
نقرأ
في الرواية وخلاصاتها أن حكايات القدس "شهرزادية طويلة لا تنتهي". هذه
واحدة من خلاصات الرواية وحكاياتها المتفرعة، وبلا دخول في تفاصيلها، فالكاتب صاحب
تجربة عميقة في الصحافة، وجمع التحقيقات والشهادات، والرصد الحثيث للأمكنة في
المدن والمخيمات، وهو "يؤلف"، أي يقوم بالموالفة، بين ما يجمعه من هنا
وهناك، وبين ما تجترحه تخيلاته لـ"صناعة" روائية يحاول بها أن يحدث
اختراقًا فنيًا غير معهود في الرواية. وهذا يتبدى في أساليب السرد، كما يبدو في
الملامح التي عرضناها من هذه الرواية التي ترسم بعض تشوهات المجتمع الفلسطيني، منذ
الاستعمار العثماني، ثم البريطانيين (يسميهم العيسة "التايمزيين"، نسبة
إلى نهر التايمز، وربما جريدة التايمز)، وصولًا إلى الاستعمار الكولونيالي
الصهيوني، القائم على النفي والتهجير ثم الاستيطان.
وإلى
هذا كله، ثمة الكثير من أحوال القدس والمقدسيين الجديرة بالقراءة والتعمق.
https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/books/2025/6/15/%D8%A8%D9%86%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D8%BA%D8%B1%D9%8A%D8%A8%D8%A9-%D9%85%D8%BA%D8%AA%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D9%88%D9%85%D9%86%D9%83%D9%88%D8%A8%D8%A9?fbclid=IwY2xjawK76NhleHRuA2FlbQIxMABicmlkETFUeHVJQlFaR25NQWxZM1EzAR7mDJ6sILKMfJx07dKy7fMvbfnDj4mSCr0DmUQmrV8FcNwdO0aSUgaVqwMABQ_aem_jA924_e2A6WRZlWx2B5vzQ