أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الخميس، 19 مايو 2016

أجراس قبلة بيت لحم الأخيرة/عميد شحادة


نقرت سيلف السيارة عند الساعة الواحدة صباحاً، وأشعلت سيجارة، وبعد مجة طويلة جئت أنفض رمادها، انتبهت أنني أشعلت قبلها واحدة ووضعتها في المنفضة ريثما أدير المحرك، ونسيت أمرها تماما مع أن دخانها عماني.
سرت على عماي مثل مسطول لا وجهة محددة لي، إلى أن وصلت سكة القطار العثماني القريبة من قريتي، غير مكترث بهذه الوقفة المشبوهة، في هذا الوقت المشبوه، في هذا الشارع المشبوه الذي يقصده السكارى كي ينسوا، لكنني جئت أتذكر.

أطفأت مصابيح السيارة كي أرى جيداً، وصعدت إلى صخرة بجوار السكة، أجلس عليها عادة لأسباب كثيرة كسفر صديق إلى الخليج وعدم القدرة على شراء السجائر، ولن أزيد كي لا يقال عني "وطنجي"، لكن لم يكن من بين الأسباب أبداً قراءة رواية.
مر وقت طويل لم أقرأ به رواية من الجلدة إلى الجلدة، في الأشهر الأخيرة، أشتري الكتاب، أقرأ منه خمسين صفحة بالكثير، ثم أغلقه وأمضي لفتح لعبة شدة في المقهى. حصل ذلك القرف من القراءة بعد اكتشافي أن كاتباً يشبح على النَّاس عديمي المبدأ بكتاباته، وإذ به يُباع ويُشتَرى، وكل ما في الأمر أنه احتفظ بمبادئه طويلا لصفقة محرزة. آسف، لا استطيع الفصل بين الكاتب وما يكتب، بين نذالته في الجذور وبطولاته في الورق.
منذ أيام وأنا أفكر من أين أبدأ في الحديث عن رواية قبلة بيت لحم الأخيرة، هذه رواية لا استطيع الكتابة عنها إلا من أخرها، وأخرها ليس جلدتها، بل الأثر الذي تركته كلسعات السجائر في جلدي، ما دفعني لنقر سيلف، واللف في الشوارع على غير هدى، قبل الوصول إلى ما كان سكة قطار، والجلوس فوق صخرة تطل على واد عبد العزيز الذي كانت جدتي تخوفني به زمان، عندما أعصي لها أمرا، فتقول: "عبي إبريق المي أو بقول لأبوك يرميك بواد عبد العزيز عشان السلعوة توكل خصواتك".
قبلة بيت لحم الأخيرة هي السلعوة التي خَصت التنظيمات الفلسطينية، والسلطة، والمثقفين، والبلديات، والرهبان، والشيوخ، وشبيحة "بالخرى نكتب لفلسطين" أقصد بالدم.
هذه رواية على قلة الصور الفنية فيها تدهشك وتدوشك في الوقت ذاته، فكاتبها الذي لم يحمل الكتابة محمل الرزق، يقدم فيها الفلسطيني كما هو بدون عنتريات، لدرجة أنك لا تشعر بأن البطل فيها بطلا، ربما الحقيقة المرة هي البطل الرئيس فيها.
ثم إنها رواية مستفزة، كُتبت بأعصاب باردة، فبين تلميح الحبكة الذي وضعه الكاتب في صفحاتها الأولى بشكل عابر قد لا يلمحه أحد، عندما كتب "جمول سابا سمع الانفجار الذي هز الوكالة اليهودية في القدس، وقال في نفسه: فعلها أنطون داود. هل قالت سميرة فعلها رائد في ظرف مختلف؟" وبين معرفة ما فعله رائد 100 صفحة، ليتبين هنا أن ما فعله الحردان ليس هو المهم بقدر ما جاء بعد العملية الفردية التي نفذها "نسناس" ضد جيش الاحتلال، في الوقت الذي اكتفت قبيلة الأسود والصقور ونمور المقاومة وتحرير فلسطين كل فلسطين، بالعنتريات الفارغة، المهم هو ماذا وجد رائد الحردان في الخارج بعد 20 عامًا في السجن.
قبلة بيت لحم الأخيرة رواية كُتبت لنا عن ما كان قبلنا، وعنا لمن سيأتي بعدنا، عنقَدها الكاتب بكثير من الأجراس التي ترن في رأس من يقرأها.

فوق الصخرة، سحبت الهاتف من جيبي، وكتبت رسالة لأسامة أسأله فيها ان كان "صاحي" لنتكلم، سرعان ما حذفتها بحجة أن الوقت متأخر، لكن صوت في قلبي لم أصدره كان يرتد بين جبلي واد عبد العزيز "هو صاحي، بس إحنا نايمين".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق